المجالس الرمضانية في جريدة الحياة اللندنية: صفحات عربية عثمانية مضيئة يلفها النسيان جرّاء الجهل والتعتيم، الاثنين 22 أيلول/ سبتمبر 2008م، الموافق 22 رمضان 1429 هـ/ العدد: 1660. د. محمود السيد الدغيم . رجاءً اضغط على الصورة لتكبيرها . büyük resim için lütfen tıklayınız
صفحات عربية عثمانية مضيئة يلفها النسيان جرّاء الجهل والتعتيم 1-2
يُشكِّل الماضي قاعدةََ انطلاقِ الحاضرِ، ويشكل الحاضرُ ميدانَ ولادةِ المستقبل، ولذلك يَعْتَبِرُ الباحثون معرفَةَ الماضي ضروريةً للاستفادة من تراكُم التجارب الإنسانية، وتحقيقُ تلك الاستفادة يتطلّبُ مَدَّ الجسور المعرفية بين الماضي والحاضر والمستقبل، وذلك بقَصْدِ نَقْلِ الخبرات الْمُعاشة في ميادين السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية من جيلٍ إلى جيلٍ إلى جيل، ومن هنا برزَت اهتماماتُ الأُمم الحيّةُ بتراثها ووثائقها لأنها تشكّل ذاكرة الأمة، وتسلِّط الأضواء على تاريخ الأمم والشعوب، والوثائقُ العثمانية تغطِّي الأنشطة الإنسانية في البلدان العربية خلال فترةٍ تبلُغُ أكثرَ من خمسة قرون من الزمن.
********
رابط تحميل وقراءة الحلقة الأولى في جريدة الحياة
اضغط هنا
***
الحلقة الثانية
اضغط هنا
****
والوجودُ العربي في الدولة العثمانية لم يبدأ في عهد السلطان سليم الأول بعد سنة 1516 م حسبما يتوهَّم بعضُ الدارسين السَّطحيين، بل تعودُ العلاقات العربية العثمانية إلى أقدم من ذلك العهد، فالسلطان محمد الفاتح حينما حاصر القسطنطينية كان يستشيرُ شيخه الشريف محمد ابن حمزة الدمشقي المعروف عند الأتراك باسم آق شمس الدين، أي شمس الدين الأبيض، فهذا الشيخ هو الأب الروحي للسلطان محمد الفاتح منذ نعومة أظفاره حتى سلطنته وانتصاراته، وكان السلطان يُردِّدُ على مسامع الجميع إن الشيخ آق شمس الدين هو أكبر نِعمةٍ من نِعم الله على عصر السلطان محمد الفاتح، واستمرّ وجودُ العلماء العرب في جوامع ومساجد وتكايا وزوايا وقصور ومدارس الخلفاء العثمانيين حتى آخر أيام آل عثمان،
فكما كان الشريفُ آق شمس الدين في عهد السلطان محمد الفاتح نَجِدُ في عهد السلطان عبد الحميد شيخَهُ الشامي محمود أبو الشامات الشاذلي، وشيخَه المصراتي الليبي التونسي محمد ظافر المدني، الذي توجدُ تُربتهُ في محلة بشيكطاش في إستانبول مابي قصر يلدز شمالاً وضريح خير الدين بربروس جنوباً، ونَجِدُ كذلك شيخَه نقيب الأشراف أبو الهدى الصيادي الرفاعي القادم من قرية خان شيخون في منطقة معرة النعمان السورية.
فما من بِلاط سلطان عثماني خالٍ من العلماء العرب على وجه الإطلاق، ومعرفة هؤلاء الأسلاف الصالحين ومنجزاتهم تتطلّب بُحوثاً جادّة لإحياء تراثهم المشرِّف.كانت الرابطةُ العثمانية تضمّ جميع رعايا دولة الخلافة العثمانية في ظلِّ العدالة الإسلامية، فلما فتحَ السلطانُ محمدُ الفاتح القسطنطينية منَحَ بطريرك القسطنطينية الرومي الأرثوذكسي رُتبة وزير في البروتوكول السُّلطاني، واستمرت تلك المعاملة طوال عهد آل عثمان، ولكنَّ تلك الصفحات التاريخية المشرقة قد شُوِّهتْ وشوَّهَها الْمُغرضون الذين في قلوبهم مرض، وأحدثوا قطيعةً بين العرب والتُرك، وقطيعةً بين التُرك والعثمانيين أيضاً، فاستبدالُ الحرف العربي العثماني بالحرف اللاتيني سنة 1928م أحدث كارثةً ثقافية انعكست سِلباً على الثقافة التركية التي أنقطعت عن جذورها، فأتراكُ اليوم يجهلون قراءة ما كُتِبَ بلُغتهم في أيام السلاجقة والأتابكة الزنكيين والمماليك والعثمانيين، لقد أُجبرَ الأتراكُ المعاصرون على إدارةِ ظهورهم إلى تراثهم العريق المكتوب بالحروف العربية العثمانية، وأجبروا على أن يتَّجهوا غرباً ولكنّ الغرب لم يرحّب بهم، ولم يعوّضهم ما فقدوه من تراثهم الذي يجهلون قراءته؛ بل رمى لهم فُتاتَ الثقافة الغربية التي لم يهضمها الأتراك لعسرة فهْمها.
آلافُ العلماء العرب نبغوا في ظل الخلافة الإسلامية العثمانية في مجالات العلوم النقلية والعلوم العقلية، في الفقه وأصوله والقانون والتجارة والصناعة والرياضيات والفلك والعلوم العسكرية، وخلّف أولئك العظماء آلاف الكتب باللغات الرئيسية الثلاث، إذ كانت اللغةُ العربية لغةَ الدين والقانون وشؤون الأحوال الشخصية والجغرافيا والتاريخ، وكانت الفارسيةُ لغةَ الأدب، وكانت اللغةُ التركية العثمانية لغةَ الإدارة، ومعظم علماء العهد العثماني كانوا يتقنون اللغات الثلاث قراءة وكتابة حتى أن والي مصر راغب باشا كَتَبَ سفينةَ الراغب باللغات الثلاث، وطُبعت سفينته في مطبعة بولاق في مصر والتي كانت تنشرُ كتباً باللغات الثلاث إضافة إلى بعض اللغات الأوروبية.
ليس المطلوب من العرب ترجمة الوثائق العثمانية فحسب، وإنما المطلوب تعميق البحث في كافة المجالات حتى شواهد القبور تُعتبر وثائق إنسانية، فعلى جدار جامع عتيق علي باشا في شارع ديوان توجدُ لوحةٌ حجرية تحمل اسم الحلبي الصغير أفقه فقهاء الدولة العثمانية وشيخ شيوخها، وعلى شواهد القبور المحيطة بالتكية الرّفاعية بجوار ضريح أبي أيوب الأنصاري نقرأُ أسماءَ أبناء وبنات أبي الهدى الصيادي الرفاعي داخل مكتبته الوقفية، وأسماء الشريف الكيالي الإدلبي، والشريف الحريري الحموي، ويشكّل أبو أيوب الأنصاري بجامعه وتربته ومدرسته والُمُلحقات مَعْلَماً مشهورا من معالم إستانبول، وكذلك جامع العرب في منطقة غلطة في القسم الأوروبي الشمالي ما بين الخليج جنوباً وبيك أوغلى شمالاً.
وهنالك آلاف المشاهير العرب يرقدون في إسلامبول وينتظرون مَن ينفض عنهم غبارَ الإهمال والنسيان، وهذا الأمر لا تُنجزه التمنياتُ، وإنما يتطلّب بحوثاً جدّيةً.
إن التعصُّب القومي عند بعض الكُتاب الأتراك والعرب قد عتّم على الكثيرين من العُلماء العرب خاصّةً الذين لم تُدرج أسماؤهم في أعلام الزركلي، ولا في معجم المؤلفين لعُمر رضا كحالة، وحتى الكتب العربية التي خُصِّصت للتعريف بالتراث العربي المطبوع تجاهلت ما طُبع في المطابع العثمانية، وهكذا أساء التعصبُ القومي العربي إلى العلماء العرب الذين نبغوا في ديار الغربة أو كتبوا بلغات أعجمية.
لا شكّ أنّ جهودَ الأفراد غيرُ كافية لإنجاز مشروع حضاري عربي يربط الحاضر بالماضي، وإنما هكذا مشروع يتطلَّبُ جهوداً دولية ترعاها الحكومات، وليس المطلوب الابتداء بما هو صعبٌ كالتنقيب عن الآثار مثلما تفعل البعثات الآثارية الإيطالية التي تنقِّبُ تحت الأرض عن الآثار الرومانية في البلدان العربية، أو غيرها من البعثات الأجنبية التي تبحث تحت الأراضي العربية بعدما انتهتْ من إنجاز البحوث في الوثائق والمخطوطات، فلتكُن البداية بالنسبة للعرب بفهرسة مئات آلاف المخطوطات العربية التي تقبع على رفوف المكتبات التركية وغيرها، وتحمل في طياتها صفحاتٍ مُنيرةً من صفحات الثقافة الإنسانية، وبالإضافة إلى فهرسة المكتبات يجب الاهتمام بترجمة وثائق الأرشيف العثماني، وما هو موجود في الدوائر والمؤسسات من وقفيات وخرائط وشجرات أنساب، وصكوك عقارية، وسجلات محاكم شرعية.
***********///........... يتبع ...اضغط هنا..