حيوية اللغات وارتباطها بحيوية المهتمين بها

 أهمية التأليف المشترك : كتاب المرآة السَنيّة في القواعد العثمانية

د. محمود السيد الدغيم   : جريدة   الحياة     - 18/02/2006م

باحث أكاديمي سوري مقيم في لندن

حيوية اللغات مرتبطة بحيوية المهتمين بها إلى حدٍّ بعيد، والدليل أن اللغة الآرامية كانت لغة عالمية قبل الميلاد، واللغة العربية أصبحت لغة عالمية في ظلال الدولة الإسلامية حيث أصبحت لغة الدين والعلم والسياسة في رحاب العالم الإسلامي من الأندلس غرباً حتى جنوب شرق آسيا، وتطور اللغة اقترن بنشاط الناطقين بها والراغبين في تعليمها وتعلُّمها، وقد أسفر ذلك النشاط عن نهضة لغوية أنتجت العديد من كتب اللغة وقواعدها النحوية والصرفية والبلاغية والأدبية، والعديد من المعاجم المتنوعة مما سهّل إتقان اللغة على طلابها، وقد تضافرت بتلك المنجزات جهود العلماء، ورعاية أولي الأمر من رجال الدولة، وأصحاب الثروة، ومؤسسات الأوقاف العلمية.

وشكّلت التجارب العلمية الإنسانية معيناً نهلت منه الأمم الحيوية، واستفادت اللغات المتخلفة الخاملة من منجزات اللغات المتطورة الحيوية، ومن تلك اللغات اللغة التركية العثمانية التي استعارت من اللغة العربية حروفها، وأضافت إليها حروفاً تحتاجها اللغة التركية، واستعارت من العربية ما تحتاجه من قواعد النحو والبلاغة والعروض، وازدهرت حركة الترجمة في عهد السلطان محمد الفاتح، واستمرت مسيرة تطور وتطوير اللغة العثمانية حتى زخرت المكتبة العثمانية بالعديد من الكتب التعليمية التي سهلت تعلم اللغة العثمانية - التركية على الناطقين بها والناطقين بغيرها من رعايا سلطنة الخلافة الإسلامية العثمانية المنتشرين في قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، وحاز الناطقون باللغة العربية نصيباً وافراً من المؤلفات اللغوية.

ومن الكتب اللغوية المميزة في مجال تعلُّم وتعليم اللغة التركية - العثمانية، والعربية والفارسية كتاب بعنوان: «المرآة السنية في القواعد العثمانية» وميزة هذا الكتاب أنّ أصله نتيجة جهدٍ مشترك بين علماء السُّلطة من كبار رجال الدولة العثمانية، فهو من تأليف العالمين: وزير الخارجية العثمانية محمد فؤاد باشا، والصدر الأعظم أحمد جودت باشا، وأضيف إلى مجهود العالمين مجهود رجل عِلمٍ ثالث هو القس لويس صابونجي الذي عرّب أصل الكتاب، ورتّبه على سبيل الأسئلة والأجوبة، واستخرجه من التركي إلى العربي، وحظي تعريب الكتاب باهتمام رجل ثري رابع هو الخواجا ديمتري سرسق الأشم الذي تبرع بنفقات طباعة الكتاب في المطبعة الشرقية في بيروت سنة 1867.

وهكذا تآزرت في إنتاج هذا الكتاب جهود رجال الدولة، وعلماء اللغة، وأصحاب الثروة، ومن خلال هذه الجهود المشتركة تتضح أهمية وحيوية العمل المشترك في المجال اللغوي.


مؤلفو الكتاب

1- أحدُ مؤلفي كتاب «المرآة السنية في القواعد العثمانية» هو أحمد جَوْدَت باشا بن إسماعيل بن علي بن أحمد «بن المفتي» إسماعيل، المؤرخ العثماني المشهور الذي وُلد سنة 1238 هـ/ 1822م في مدينة « لوفجة» التابعة لولاية الطونة البلقانية، وتعلم في لوفجة، وأكمل دراسته في إسطنبول، وترقى في المناصب الحكومية ، فوُلّي عضوية مجلس المعارف، وولي ولاية حلب ومرعش ويانية، وولي الوزارة. ثم وُلي الصدارة العُظمى الموقتة بعد استعفاء خير الدين باشا، ثم ولي نظارة العدلية. وتوفي في اسطنبول سنة 1312 هـ/ 1895م. وكانت ثقافته العثمانية والعربية والفارسية عالية جداًّ، ودليل ذلك مؤلفاته العثمانية والعربية.

ومن كتبه العربية: خلاصة البيان في جمع القرآن – طبع في الآستانة سنة 1303 هـ، وكتاب تعليقات على اوائل المطول في البلاغة، وقد طبعته المطبعة العامرة في الآستانة سنة 1294 هـ، وكتاب تعليقات على الشافية في النحو، مطبوع في الآستانة سنة 1294م، وكتاب تعليقات على البناء في النحو، مطبوع في الآستانة سنة 1294م، وكتاب تعليقات على نتائج الأفكار شرح الإظهار، في النحو، مطبوع في الآستانة سنة 1294م، وكتاب تقويم الأدوار، الذي ترجمه الياس مطر، وطبع في الآستانة سنة 1295م.

وقد ترجم مقدمة ابن خلدون من العربية إلى اللغة العثمانية، ومن كتبه المشهورة «تاريخ جودت» باللغة التركية ـ العثمانية، ويقع في اثني عشر مجلداً وقد طبع مرات عدة في إسطنبول منذ سنة 1308 هـ، ويتناول تاريخ الدولة العثمانية في الفترة التي تمتد من سنة (1118 هـ = 1774م) إلى سنة (1241هـ = 1826م)،. وقد ترجم المجلد الأول أمير عشيرة الموالي السورية أحمد عزت العابد (1271 هـ/ 1855م) ـ (1343هـ/ 1924م).

وقام عبد القادر الدنا البيروتي أيضاً بترجمة المجلد الأول من تاريخ جودت من التركية - العثمانية إلى العربية، وطبع في بيروت سنة 1308 هـ، ويقع في 414 صفحة، أخيراً حقق المجلد الأول من تاريخ جودت عبداللطيف بن محمد الحميد، ونشرته مؤسسة الرسالة في 616 صفحة، واعتمد محمد فريد بك المحامي على تاريخ جودت في تأليفه كتاب تاريخ الدولة العلية العثمانية.

2- والمؤلف الثاني لكتاب «المرآة السنية في القواعد العثمانية» هو الشاعر محمد فؤاد باشا أكبر أبناء المُلا عزت، وقد حضرت عائلته من مدينة قونيا الأناضولية إلى إسطنبول التي ولد فيها محمد فؤاد سنة 1230 هـ/ 1815م، وتلقى تعليمه فيها فنبغ في الآداب العربية والتركية والفارسية، وقرض الشعر، وحمل لقب الشاعر كججي زاده «Keçeci-Zade»

وفي سنة 1250 هـ خدم في الجيش العثماني في طرابلس الغرب مدة ثلاث سنوات، ثم عاد إلى إسطنبول وعمل مترجماً في الباب العالي سنة 1253 هـ، ثم أصبح مستشاراً في وزارة الخارجية سنة 1255 هـ/ 1839م، ثم عُين باش كاتب في السفارة العثمانية في لندن سنة 1257 هـ/ 1841م، ثم عمل في السفارة العثمانية في إسبانيا، ثم عاد إلى اسطنبول فعمل في الوزارة، وفي سنة 1264 هـ عين في بوخارست عاصمة رومانيا، وساهم في المقاومة العثمانية ضد الروس والامبراطورية النمساوية، وقاد المباحثات العثمانية ـ الأوروبية سنة 1265 هـ، ثم عين مستشاراً للصدارة العظمى سنة 1266 هـ.

وأصيب بالروماتزم في شهر ذي القعدة سنة 1266 هـ، فتوجه إلى العلاج بالمياه المعدنية في قابلجة والراحة في مدينة بورصة التركية بصحبة جودت باشا، وهنالك ألفا كتاب القواعد العثمانية، وكتب أيضاً «نظام نامه» للشركة الخيرية للملاحة البحرية.

وفي سنة 1268 هـ تم تعيين فؤاد باشا مستشاراً وزارياً في مصر، ثم عاد وعُين وزيراًًً للخارجية العثمانية في السنة ذاتها، وفي سنة 1271 هـ عُيّن فؤاد باشا رئيساً لتنظيمات المجلس العالي اضافة إلى وزارة الخارجية، وفي سنة 1274 هـ تم تعيين فؤاد باشا رئيساً للمجلس القانوني الأعلى «التنظيمات» مرة ثانية في عهد السلطان عبد المجيد، وعين والياً على سورية سنة 1276 هـ/ 1860م، وكُلّف بحل الأزمة المارونية ـ الدرزية في جبل لبنان.

وأسفرت مهمة فؤاد باشا عن إعطاء جبل لبنان وضعاً إداريًّا خاصاً عن طريق إعلانه متصرفيّة ممتازة تدار محليًّا بموجب ما سُمي يومئذٍ بالبرتوكول الذي وضع موضع التنفيذ الفعلي سنة 1864م.

وقد اشترط في هذا البروتوكول أن يكون المتصرف من رعايا الدولة العُثمانيّة النصارى غير اللبنانيين. وكان أول من تولى هذا المنصب داوود قرابيت أرتين من عائلة أرمنيّة كاثوليكيّة.

وفي السنة ذاتها التي أُعلن فيها جبل لبنان متصرفيّة ممتازة، فإن الدولة العُثمانيّة ألغت جميع التقسيمات الإداريّة في البلاد السوريّة مع الإبقاء على الإمتيازات اللبنانيّة، وجعلت سورية الطبيعيّة كلها ولاية واحدة مركزها مدينة دمشق، وبذلك أُلغيت ولاية بيروت وأُلحقت مدينة بيروت نفسها بلواء صيدا الذي كان يتألف من هاتين المدينتين ومعهما صور وبلاد بشارة (جبل عاملة).

وبعد وفاة السلطان عبد المجيد آلت السلطنة إلى السلطان عبد العزيز، فوحَّد مجلسي القانون الدستوريين، وعين فؤاد باشا رئيساً سنة 1278 هـ/ 1862م، كما عينه وزيراً للخارجية والمالية فأصلح الوزارتين، وفي سنة 1279 هـ، ترأس مجلس الأحكام العدلية العثمانية، وفي السنة ذاتها تقلّد منصب الياور الأكرم في الصدارة العظمى ومنصب السر عسكر مدة ثلاث سنوات، وفي سنة 1283 هـ تم تعينه وزيراً للخارجية للمرة الخامسة، ثم توفي سنة 1285 هـ/ 1869م. ودفن في مقبرة بيك خانة في إسطنبول. (لمزيد من المعلومات راجع باللغة التركية:

Mehmed Fuat Pacha ،« Islam Keçecizade) Ansiklopedisi Cilt 4 ،Istanbul : 672 – 681») وقد نال فؤاد باشا إعجاب اللبنانيين، فمدحه خليل الخوري البيروتي محرر جريدة حديقة الاخبار في بيروت، ونشرت المدائح تحت عنوان: النشائد الفؤادية، وطبعت في بيروت سنة 1863م.

3- ومُعرّب كتاب «المرآة السنية في القواعد العثمانية» هو القسّ الدكتور يوحنا لويس بن يعقوب بن ابراهيم بن الياس بن ميخائيل بن يوسف صابنجي الأُرفلي «الصابونجي» الذي وُلد في بلدة ديريك التابعة لولاية ديار بكر التركية سنة 1254 هـ/ 1838م، وتلقى علومه فيها وفي أورفة وفي سورية ورومية، فتضلع في الآداب، وأجاد العربية والتركية واللاتينية والاٍيطالية والفرنسية والانجليزية.

وطاف حول الأرض مدة سنتين وسبعة شهور، وأصدر مجلة «النحلة» في بيروت، مدة، ونقلها اٍلى لندن حيث أنشأ أيضاً جريدة «الاتحاد العربي» وجريدة «الخلافة» وانتقل اٍلى الآستانة، فجُعل أستاذ جغرافيا لأبناء السلطان عبد الحميد، ومترجماً خاصاً له.

ثم قام بسياحات واستقر في مدينة «لوس أنجلوس» الأميركية، واغتاله لصٌّ أميركي وهو راقد في سريره ليلاً في أحد فنادقها سنة 1350 هـ/ 1931 م.

له كتب مطبوعة، منها: تعريب كتاب المرآة السنية في القواعد العثمانية - لمحمد فؤاد باشا وأحمد جودت باشا وطبع في بيروت 1867 م، وللصابونجي كتاب تهذيب الأخلاق، وكتاب شعر النحلة في خلال الرحلة طبع في الإسكندرية سنة 1901م، ورسالة النحلة الفتاة، وهي التي طعن فيها بالطائفة المارونية، وكانت سبب ارتحاله من برّ الشام وسفره إلى أوربا ومنها إلى اميركا، وطبعت في بيروت، ورسالة فتنة حلب سنة 1850م، وفتنة لبنان وسورية سنة 1860م، والثورة العرابية سنة 1882م، وكتاب بطاركة السريان، وعشر نبذات سياسية، ومرآة العيان في تسلسل الأديان، وديوان شعره، وكتاب أصول القراءات العربية والتهذيبات الاخلاقية المطبوع في بيروت سنة 1866 م، وكتاب ترجمتيّ العلامة الخوري يوسف داود والسيد الفاضل يوسف الدبس.

ويظهر أن القس صابونجي تحول عن النصرانية أو عن مذهبه فيها، فقال الأب لويس شيخو اليسوعي في كلامه على السريان الكاثوليك في كتابه تاريخ الآداب العربية: «ولولا عدول الدكتور (لويس صابونجي) عن دينه لذكرناه هنا: وقد ذكرنا سابقاً ديوانه شعر النحلة».

نشر البحث في جريدة الحياة على الرابط التالي : اضغط هنا


thumb qr1 
 
thumb qr2
 

إحصاءات

عدد الزيارات
16513593
مواقع التواصل الاجتماعية
FacebookTwitterLinkedinRSS Feed

صور متنوعة