كتاب التراث والمعاصرة، للدكتور أكرم ضياء العمري، ويتكون الكتاب من المقدمة بقلم: عمر عبيد حسنة، ومقدمة المؤلف، ثم تتوالى مكونات الكتاب

سلسلة كتاب الأمة : قطر 

واحة التراث
د. محمود السيد الدغيم
باحث أكاديمي في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية
جامعة لندن
SOAS

1
سلسلة كتاب الأمة
تحتلُّ سلسلة كتاب الأمة مكانة مرموقة بين سلاسل الكتب العربية نظراً لما تطرحه من كتبٍ جادة، ومفيدة لأبناء الأمة وبناتها، وهذه السلسلة محكمة المواضيع، وتصدرها رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر، وقد شملت الكثير من المواضيع الجديرة بالبحث والمناقشة، ومن إصداراتها على سبيل الذكر لا على سبيل الحصر:
الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، العسكرية العربية الإسلامية، الإستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري، الحرمان والتخلف في ديار المسلمين، نظرات في مسيرة العمل الإسلامي، أدب الاختلاف في الإسلام، التراث والمعاصرة، مشكلات الشباب الحلول المطروحة والحل الإسلامي، المسلمون في السنغال معالم الحاضر وآفاق المستقبل، مدخل إلى الأدب الإسلامي، المخدرات من القلق إلى الاستعباد، فقه الدعوة: ملامح وآفاق، دراسة في البناء الحضاري (محنة المسلم مع حضارة عصره)، في فقه التدين فهما وتنزيلا، في الأقتصاد الإسلامي المرتكزات- التوزيع - الاستثمار - النظام المالي، أزمتنا الحضارية في ضوء سنّة الله في الخلق، المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي، مقالات في الدعوة والإعلام الإسلامي، اليهود و التحالف مع الأقوياء، الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع الدواعي والإمكان، العقل العربي وإعادة التشكيل، إنفاق العفو في الإسلام بين النظرية والتطبيق، أسباب ورود الحديث تحليل و تأسيس، في الغزو الفكري، فقه تغيير المنكر، في شرف العربية، المنهج النبوي و التغيير الحضاري، الإسلام و صراع الحضارات، رؤية إسلامية في قضايا معاصرة، المستقبل للإسلام، التوحيد و الوساطة في التربية الدعوية، الإسلام وهموم الناس، التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون، عمرو بن العاص: القائد المسلم، والسفير الأمين. وثيقة مؤتمر السكان والتنمية رؤية شرعية، في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، أصول الحكم على المبتدعة عند شيخ الإسلام ابن تيمية، من مرتكزات الخطاب الدعوي في التبليغ والتطبيق، عبد الحميد بن باديس و جهوده التربوية، تخطيط وعمارة المدن الإسلامية، المنظور الحضاري في التدوين التاريخي عند العرب، من فقه الأقليات المسلمة، الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي، النظم التعليمية الوافدة في أفريقيا قراءة في البديل الحضاري، إشكاليات العمل الإعلامي بين الثوابت والمعطيات العصرية، الاجتهاد المقاصدي حجيته؛ ضوابطه؛ مجالاته، القيم الإسلامية التربوية والمجتمع المعاصر، أضواء على مشكلة الغذاء بالمنطقة العربية الإسلامية، نحو تقويم جديد للكتابة العربية، دور المرأة في خدمة الحديث في القرون الثلاثة الأولى، الإعلان من منظور إسلامي، تكوين الملكة الفقهية، الظاهرة الغربية في الوعي الحضاري:أنموذج مالك بن نبي، الترويح وعوامل الانحراف: رؤية شرعية، فقه الواقع:أصول وضوابط، دعوة الجماهير مكونات الخطاب ووسائل التسديد، استخدام الرسول صلى الله عليه وسلم الوسائل التعليمية، المصطلـح خيار لغوي وسمة حضارية، عالم إسلامي بلا فقر، نحن والحضارة، القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي، التفكك الأسري الأسباب والحلول المقترحة، الارتقاء بالعربية في وسائل الإعلام، التفكك الأسري دعوة للمراجعة، ظاهرة العولمة رؤية نقدية، حقوق الإنسان: محور مقاصد الشريعة، حقوق الإنسان بين الشريعة والقانون، البعد الحضاري لهجرة الكفاءات، معالم تجديد المنهج الفقهي نموذج الشوكاني، الطفولة ومسؤولية بناء المستقبل، في الإجتهاد التنزيلي، لا إنكار في مسائل الخلاف، من أساليب الإقناع في القـرآن الكريم، الغرب ودراسة الآخر: أفريقيا أنموذجاً، قضية المرأة: رؤية تأصيلية، التعليم وإشكالية التنمية، الحوار: الذات والآخر، لخطاب التربوي الإسلامي، وغير ذلك.
2
كتاب الأمة العاشر

إن الكتاب العاشر في سلسلة كتاب الأمة التي تصدرها رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر هو: كتاب التراث والمعاصرة، للدكتور أكرم ضياء العمري، ويتكون الكتاب من المقدمة بقلم: عمر عبيد حسنة، ومقدمة المؤلف، ثم تتوالى مكونات الكتاب ابتداء بمصطلح التراث في الحضارة الغربية، ثم الاحتراز يقتصر على الكتاب والسنَّة دون غيرهما، وجدوى حركة إحياء التراث، وحركة الإحياء المختلفة بين الشرق والغرب، والقرن العشرون وسيطرة العبثية، وأهمية التراث وضرورة تيسيره، وضرورة ترشيد حركة التحقيق العلمي للمخطوطات، وخطوات مقترحة، ودور التراث في مواجهة المشكلة الاجتماعية، والمشكلة السياسية، والمشكلة التشريعية، والمشكلة الثقافية، والقرآن الكريم ومنهج البحث التجريبي، وتطور الفكر الغربي، وعجز منهج البحث الغربي وانحرافه، وموقف علماء المسلمين من منهج البحث الغربي الآن، والمشكلة اللغوية، وأهمية مراقبة تطور اللغة العربية، ومشكلة البحث العلمي، والمفكر والأستاذ الجامعي، وحقوق المفكرين الأدبية والمادية، وأعمال مكررة وجهود ضائعة، والبحث والتأليف والحاجة إلى دراسة نقدية، والتراث ومشكلة هجرة العقول، وتلازم التربية والتعليم، والتربية بالقدوة، ومهمات أساسية أمام الجامعات الإسلامية، ووضع استراتيجية للبحوث الإسلامية، وغياب حركة النقد الواعي والحاجة إليها، والتعليم الإسلامي وتكنولوجيا التعليم، وضوابط الانفتاح على الثقافات العالمية.
3
المقدمة

قدم للكتاب عمر عبيد حسنة، فقال: ولا شك أن مشكلة التراث والمعاصرة، أو ما يعبر عنه بالأصالة والمعاصرة، قضية لا تزال مطروحة في حياتنا الثقافية منذ أوائل القرن التاسع عشر تقريباً، الذي حمل معه ـ إضافة إلى المواجهات العسكرية التاريخية ـ مواجهة من نوع آخر، إنها المواجهة الحضارية الشاملة التي جاءت بها أوروبا إلى بلادنا حاملة معها نواتج نهضتها ووسائل تقدمها كلها، إضافة إلى اعتقادها أن الحضارة الأوروبية وقيمها هي المقياس الوحيد لكل نهوض وتقدم، تؤمن بذلك وتبشر به في عالمنا الإسلامي الذي أصيب بهذه الصدمة الحضارية، وعاش حالة الانبهار التي أفقدته القدرة على التمييز والرؤية الصحيحة بعد أن توقف العقل المسلم عن الإبداع والعطاء، وخرجت الأمة المسلمة من الساحة وافتقدت الفاعلية الحضارية، وخيم عليها الركود، وسادها مناخ التخلف.
4
تحديات العصر
إن الالتجاء إلى التراث، والاحتماء بالتاريخ يعتبر رد فعل طبيعي لحماية الحالة النفسية للأمة من الانكسار، والشخصية الحضارية التاريخية من الذوبان في مراحل المواجهة الأولى، لكن تبقى المشكلة المطروحة هنا أن معالجة تخلف أي مجتمع من المجتمعات، ونقله إلى المعاصرة المطلوبة لا تتحقق برواية أمجاد ماضية واستغراقه في نشوة الفخر والاعتزاز، واستسلامه للمديح الذي قد ينقلب إلى مانع ومعوِّق حضاري بدل أن يكون دافعاً إلى تجديد العمل على ضوء هذا الماضي، وشاحذاً للفاعلية، لأن ظاهرة الإغراق في مدح الماضي ومثاليته، والفخر به إذا تجاوزت الحدود المطلوبة للحماية، تنقلب إلى معوِّق يبتعد بالماضي عن قدرة الأشخاص عن الإفادة منه حيث نقتصر على تعظيم البطل ونعجز عن محاكاة البطولة، ذلك أن النهوض لا يمكن أن يتحقق بالاقتصار على رواية الماضي والافتخار به كبديل عن ممارسة تغيير الواقع، كما لا يمكن في الوقت نفسه أن يتحقق باستيراده من خارج أفكار الأمة وقيمها.

وقد لا يجد الإنسان المتأمل كبير فارق بين دعاة المعاصرة هؤلاء الذين لا يرون سبيلها إلا بالتخلي عن الذات المترافق مع الشعور باستحالة اللحاق بالعصر الذي يشل الإمكانية ويعطل الفاعلية، فيدعون إلى تقليد الغالب في الشيء كله، وبين التراثيين، أولئك الذين يقتصرون على الفخر بالماضي والاعتزاز به بحجة أن الأولين لم يتركوا للآخرين شيئاً، كبديل عن الإسهامات المعاصرة من حيث النتيجة والممارسة العملية، وإن اختلف المنطلق.إنهم يقفون على أرض واحدة، ويتنفسون هواء مناخ واحد هو مناخ الواقع المتخلف.

فلا دعاة التراث بالمفهوم السابق استطاعوا أن يرتكزوا إلى الماضي ويتزودوا منه لتغيير الواقع وصناعة المستقبل حيث إنهم اقتصروا على الانتصار العاطفي للتراث والتاريخ، واكتفوا به عن الفعل الحضاري. ولا استطاع دعاة المعاصرة بمعنى الانسلاخ عن الماضي ومحاكاة إنسان العصر الأوروبي ووسائله، تقديم البديل أو المساهمة بأي نهوض أو عمل مبدع. لقد سقط دعاة المعاصرة هؤلاء بحفر من التخلف جاءت أشد عمقاً، فكانوا أشد تقليداً وأسوأ حالاً من التراثيين. والحقيقة البادهة أن لا معاصرة دون أصالة، ولا أصالة صادقة دون معاصرة فاعلة.
5
رأي بالكتاب

إن الكتاب الذي نقدمه اليوم استطاع أن يقدم ملامح مضيئة ومعالم واضحة للإفادة من التراث في معالجة المشكلات المعاصرة، وقد عرض لأهمها؛ كالمشكلة الاجتماعية والتشريعية والثقافية واللغوية إضافة إلى المشكلة السياسية، وكان له وقفة موفقة عند العصر العباسي حيث ترسب في أذهان كثير من الناس أن التجزئة في ذلك العصر كانت سبباً في إثراء المعرفة، وكأن وحدة المسلمين هي عامل تخلفهم!!
كما دعا إلى وضع استراتيجية واضحة ودقيقة للثقافة الإسلامية من أجل مراعاة مبدأ تراكم المعرفة في النتاج الجديد حفاظاً على الطاقات، ورغبة في الوصول إلى نتائج تخدم القضية الإسلامية في هذا العصر بناء على دراسة الواقع التاريخي إلى جانب الواقع المعاصر.
كما أكد على أهمية أن تقوم دراسات ناقدة تجيب عن مجموعة أسئلة تحدد أهداف العمل وغاياته، والحدود والشروط والوسائل اللازمة لترشيده وتوجيهه الوجهة السليمة، وتُجلِّي السلبيات والإيجابيات، وتحرك الركود والخمول الذهبي الذي يعطل فاعلية المسلمين اليوم، لأن غياب حركة النقد أدى إلى فوضى فكرية تتمثل في ضياع مقاييس التقويم، وكثرة التكرار في الأشكال والمضامين، وغلبة السطو الأدبي.

6
مقدمة المؤلف
يثور في الأوساط الثقافية جدل طويل حول ما يسمى بـقضية التراث، وقد أُلقيت محاضرات، وكُتبت مؤلفات، وعُقدت ندوات لبيان مكانة التراث في حياتنا المعاصرة، ولا شك أن هذه القضية ما كانت لتظهر لولا الفصام الذي ظهر بين ماضينا وحاضرنا على أثر غزو الحضارة الغربية وثقافتها الفكرية للعالم الإسلامي بحيث صار من الضروري أن يؤكَّد على ملامح متميزة وطوابع ذاتية تحول دون ذوباننا في عالم الغرب.

7
الغزو الأجنبي عسكرياًّ وفكرياًّ

قد أذكى الصراع السياسي والعسكري بين الشرق الإسلامي والغرب الاستعماري ـ في النصف الأول من القرن العشرين خاصة ـ دوافع جديدة للتحدي وللرغبة في التميز والتأكيد على "الذات" في عالمنا.
وجاء الغزو الفكري الغربي خلال فترة التسلط الاستعماري المباشر وبعدها يُعبِّر عن اعتزاز الغرب بثقافته ولغته وتقاليده وقيمه التي حاول فرضها على البلدان المسْتَعْمَرَةِ، واستمر يغذيها عن طريق وسائل الاتصال المختلفة حتى بعد خروج عساكره من العالم الإسلامي، وقد ساعده التقدم التكنولوجي الهائل على تحقيق نجاح كبير في مساعيه، وكان لابد أن يظهر رد الفعل في العالم الإسلامي ليؤكد على الذاتية والخصوصية وتوظيف التراث لتحقيق ذلك.
ولكن "قضية التراث نفسها" لم تنج من آثار الغزو الفكري، فقد طرحت أحياناً بمنظار غربي بحيث احتل "الفلكلور" مساحة واسعة، مما حول القضية إلى نمط من المتعة الثقافية التي أضافها الغربيون أنفسهم إلى أنواع الترف الفكري الذي يعيشونه بعد أن حققوا أحلامهم في الثروة والسيطرة على عالم اليوم.

ولا شك أن قضية "التراث" بهذا المنظار لن يكون لها أثر كبير في تشكيل شخصيتنا الحضارية، لذلك يتقبلها التيار الرافض للتراث بمعناه الشامل، وهو تيار يرى في التراث معوِّقاً للوصول إلى النهضة التي لن تحدث ـ في رأيه ـ إلاَّ بمتابعة خُطا الحضارة الغربية، وهو طريق مضمون النتائج.
ولكن العديد من المثقفين المتشبعين بالتراث وروحه تخطَّوْا هذا الطرح الهزيل لقضية التراث التي يرونها تتمثل في بعث روح حضارية تربط الحاضر بالماضي، وتؤكد على الأصالة تأكيدها على المعاصرة، ورغم أنهم لا يؤمنون بشد العربة إلى الوراء ولا الالتزام الحرفي بكل جوانب الماضي بل يؤكدون على عوامل التقدم الحضارية، لكنهم يضعون إطاراً عاماً للتطور يحكمه الوحي الإلهي الذي ينبغي أن يشكل روح الحاضر ودستوره العام، كما كان في عصور الإسلام الذهبية، وهذا التيار يمثل الاتجاه السلفي الذي اشتدت قوته في العقود الأخيرة، وعبرت عنه وسائل الإعلام بـالصحوة الإسلامية.
8
التوفيقيون الانتقائيون
يقف بين الاتجاهين أصحاب الحلول الوسطية التوفيقية يمثلون تياراً انتقائياً يسعى للتوفيق بين قيم التراث والحضارة الغربية، وهو يقتربُ مرة من الاتجاه السلفي عندما يسلم بالوحي الإلهي ودوره في بناء حضارة إسلامية معاصرة، ويقترب أخرى من الاتجاه الرافض للتراث بمعناه الشمولي عندما يجعل الانتقاء يمتد إلى الوحي الإلهي نفسه، ويعامله مثل بقية المعطيات الأخرى .
وأحياناً يشتد التناقض في ذهنية بعض التوفيقيين، ويحاولون الخلاص باقتراح الفصل بين القرآن والسنة باعتبارهما وحياً إلهياً وبين النتاج الثقافي والحضاري في التراث، ليتم الانتقاء والنقد بحريَّة دون المساس بالعقيدة الدينية، والحق أن هذا الرأي يبعد عن واقع المشكلة الحقيقية لأن الفصل غير ممكن عملياً، ولأن النقد يمكن أن يتعرض للعقيدة والشريعة من خلال نقد قيم التراث المستمدة من الوحي الإلهي.

9
التراث في الحضارة الغربية
يقول الدكتور أكرم ضياء العمري في كتاب التراث والمعاصرة، الصادر ضمن سلسلة كتاب الأمة في قطر: ورغم أن مصطلح التراث (LEGACY ) في الحضارة الغربية المعاصرة يطلق أيضاً على المخلفات الحضارية والثقافية والدينية؛ فإن الروح العلمانية "غير الدينية" المهيمنة على الفكر الغربي الحديث جعلته لا يميز بين الدين وبقية الإرث الحضاري؛ بل هو يتعامل مع التراث على سواء بين ما مصدره الإنسان المخلوق وما مصدره الإله الخالق، فالكل يتعرض لعملية النقد والانتقاء والقبول والرفض، ويخضع الدين لهذا المنهج دون أية قداسة.
ومن هنا يكمن خطر اعتبار الدين تراثاً ضمن الظلال العلمانية الغربية التي أحاطت بمصطلح التراث، فالمشكلة إذَنْ ليست في تعريف التراث كاصطلاح علمي حضاري، وإنما في هيمنة الفكر الغربي وقيادته للعلوم وللثقافة، وتحديده لمصطلحاتهما وصبغهما بصبغته غير الدينية.

10
الكتاب والسنَّة

وبالطبع فإن الاحتراز يقتصر على الوحي الإلهي "الكتاب والسنة" ولا يتعداهما إلى الفقه أو الاجتهادات الفكرية؛ التي أثمرها العقل المسلم من خلال تفاعله مع الوحي الإلهي، ومحاولته فَهْم الكتاب والسنة والاستنباط منهما.

إذ لا ضرر من الانتخاب أو النقد عند التعامل مع المنظومات الفكرية والفقهية، ومادام الدين يدخل في التراث ونحن نعيش الدين وقيمه ومقاييسه؛ وإن علاها غبش حيناً، وأصابها انحراف حيناً آخر، ومادامت التقاليد والأعراف الاجتماعية الموروثة تدخل في التراث رغم أنا نعيشها ربما منقحة، أو مختزلة، أو متطورة لكنها ليست منفكة عن جذورها القديمة؛ مادام الأمر كذلك فلن يبقى ثمة مجال للتساؤل إن كان التراث شيئاً دارساً نريد أن نحييه، فحياتنا الحضارة ليست منبتَّة الجذور ولا مجهولة الأصول، ولكن الصلة بين حاضرنا وماضينا تبدو ضعيفة أصابها الوهن بسبب الاضمحلال الحضاري، وضعف عملية التواصل الثقافي خلال القرون الأخيرة.

وعندما بدأت النهضة الحديثة في العالم الإسلامي لم تواكبها رؤية واضحة لقضية التراث وحركة الإحياء، بل إن وقوع المنطقة تحت دائرة نفوذ الحضارة الغربية القوي ولَّد تيارات فكرية معادية لحركة الإحياء، ومؤيده للسير وراء الحضارة الغربية، مما ولَّد التناقضات في بنية المجتمع الإسلامي الحديث وأعاق نهضته الحضارية، فالحضارة إنما تولد وتزدهر في مجتمع تحكمه "أيديولوجية" واضحة توحد حركته باتجاه الهدف، وتعطيه الحوافز الروحية اللازمة للبناء والتقدم.
11
جدوى إحياء التراث
ما جدوى حركة الإحياء، وتقوية الصلة بين حياتنا المعاصرة وجذورنا التراثية؟ لقد طفرت الحضارة الغربية خلال القرون الأخيرة متجاوزة كل منجزاتنا التراثية في حقل الطب والفلك والرياضيات وفنون الصناعات، فهل نريد البناء على منجزاتنا الماضية؟ وعندها سنحتاج إلى قرون طويلة من التطور البطيء لنصل ـ أولا نصل ـ إلى ما وصل إليه الغربيون في هذا المضمار.

وإن كان الهدف من إحياء التراث العلماني الاعتزاز بمنجزات الماضي وبيان دورنا في الحضارة العالمية، وأثرنا على الحضارة الغربية يوم أن كانت في مهدها، فهو أمر معقول وهو يولد الاعتزاز بالذات، وقد يجرُّ اعتراف الآخرين بذلك إلى زيادة احترام أمتنا؛ مما له أثر في العلاقات مع عالم اليوم.

أما النهضة الذاتية فيمكن أن ترتكز على روح التراث وحوافزه الروحية والفكرية أكثر من منجزاته العلمية والصناعية؛ هذه الروح التي توجدُ محاضن صالحة للتكنولوجيا المنقولة عن الغرب تجعلها مغروسة في بيئتنا، وملائمة لحضارتنا، ومتفقة مع أهدافنا، وقد تدفعنا هذه الروح إلى تجاوز الحضارة الغربية في مرحلة تاريخية لاحقة.
ومن أجل أن تكون الرؤية واضحة يلزم تحديد الأهداف بدقة واختيار الوسائل الملائمة، ولابد من دراسات واسعة لمعرفة قيم التراث وأثر إحيائه على حياتنا العقيدية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.

12
حركة الإحياء

لا بد من ملاحظة الاختلاف بين الظروف التي أحاطت حركة الإحياء "الرينيسانس" في الغرب في عصر النهضة الأوروبية، وبين حركة الإحياء الإسلامية الحديثة.
لقد سعى العلماء في عصر النهضة الأوروبية لتوثيق علاقتهم الفكرية والنفسية بتراث الرومان واليونان متجاوزين تاريخ النصرانية والكنيسة بسبب حالة العداء بينهم وبينها؛ فكان هدفهم إحياء التراث الوثني وإبرازه لقطع الصلة بالحاضر والماضي النصراني، لذلك صاحبت حركة الإحياء حملةٌ عنيفة على الكنيسة والنصرانية وقيمها.
ويمكن أن نتلمس هذه الحملة في أدبيات القرون الأربعة المتعاقبة منذ عصر النهضة الأوروبية حتى القرن العشرين، فهذه الظاهرة واضحة في الأدب الكلاسيكي؛ أدب القرن السابع عشر الذي كان "يستوحي الآداب اللاتينية واليونانية ويستمد منها مادته" بل إن المدرسة النقيضة للكلاسيكية، والتي عرفت بالرومانتيكية، واستمدت من أدب العصور الوسطى ممثلة في "ديدرو" و "فولتير" و "روسو" و "دالامبير" و "كوندورسيه" كان يغلب عليها التحلل من الدين والتقاليد، رغم أن بعضهم مثل "روسو" عبَّر عن إيمانه بالله وثورته على الكنيسة وفلسفتها التربوية.
وفي منتصف القرن التاسع عشر ظهرت المدرسة الجمالية التي أعلنت عدم الالتزام بقيم المجتمع الخلقية والدينية حتى قال "أوسكار وايلد": "ليس ثمة كتاب يمكن أن يوصف باللا أخلاقي، إذ ليس ثمة سوى كتب حسنة التأليف وأخرى سيئة التأليف". 
13
القرن العشرون والعبثية
أما في القرن العشرين فقد سيطرت العبثية وفقد اليقين الديني، ونجحت جهود حركة الإحياء الأوروبية في عزل الأجيال الصاعدة عن النصرانية، حتى قال "أندريه مالرو" في كتابه: إغراء الغرب، عام 1925م: "في اللب من الإنسان الأوروبي ثمة عبثية جوهرية تسيطر على اللحظات الكبرى في حياته" وقد عبرت مسرحيات اللا معقول مثل: "أسطورة سيزيفوس ـ 1942م" لـ "كامي" عن خيبة الأمل وضياع اليقين، والتي تُظهر انعدام المعنى وضياع المثل التي تميز هذه المرحلة من تاريخ الحضارة الغربية في النصف الأول من القرن العشرين.

وقد أثر المسرح الغربي كثيراً في مجال نقد القيم الدينية في القرن العشرين؛ حتى عبر عن هدفه "دبليو. أ. أرمسترونغ" بقوله: "إن كُتَّاب المسرح قد جعلوا منه مركز تجمع لصراع الخيال البشري الدائم ضد القناعة الدينية، وعدم الاكتراث الخلقي والإمَّعية الاجتماعية". فلا غرابة إذا ما عانت حضارة الغرب من الخواء الروحي والإفلاس القيمي؛ مما يعرضها للسقوط كما عبرت دراسات الناقد "كولن وِلْسُن" في "اللا منتمي" و"سقوط الحضارة".

ولا تزال الآداب الأوروبية حتى الآن ملتصقة بالأساطير اليونانية التي حظيت بالتحليل النفسي والأشكال الفنية الحديثة؛ كما تظهر في مجموعات "سارتر" و"كامي" الأدبية، والأهم من ذلك أن قِيم الحياة اليونانية والرومانية، وما تحمله من عنصرية وصراع وحب للقوة وانغماس في المادة صارت نتيجة حركة الإحياء سمتاً للحضارة الغربية المعاصرة، والتي لم تعد النصرانية تمثل فيها أكثر من صبغة باهتة أمام الألوان الفاقعة للمادية المهيمنة.

14
أهمية التراث وضرورة تيسيره
إن التراث هو الهوية الثقافية للأمة، والتي من دونها تضمحل وتتفكك داخلياً، وقد تندمج ثقافياً في أحد التيارات الحضارية والثقافية العالمية القوية، وبالنسبة للمسلمين فإنهم يتعرضون لهذا التفكك ويندفعون بقوة مطردة نحو التيارات العالمية المتباينة، ويمكن أن نتلمس أسباب ذلك أو بعضها في طبيعة التراث من ناحية، وفي طريقة الإفادة منه ثانياً، وفي القيم العامة التي تحكم إلى حد ما ـ ولو على صعيد القيادات الفكرية ـ عملية التفاعل معه ثالثاً .
فأمَّا طبيعة التراث، فإن معظم التراث الإسلامي يتمثل في المكتبة العربية والتي ترجع بدايتها إلى فجر التاريخ الإسلامي؛ عندما قامت حركة التدوين في القرن الأول، ثم انتهت إلى التصنيف في القرن الثاني، وازدهرت كثيراً في القرن الثالث ثم الرابع، ولا يعني ذلك غمط جوانب التراث الأخرى حقوقها أو التقليل من آثارها، فإن الأعراف الاجتماعية والتقاليد الخلقية تتوارثها الأجيال اللاحقة وتكتسبها من الأجيال السابقة، وكذلك فإن المخلفات المادية المحفوظة توضح المستوى الحضاري للأمة ومدة تنوع نشاطها في الماضي، ولكن من الواضح أن المكتبة العربية هي أهم جوانب التراث الإسلامي، وقد كتبت معظم المؤلفات بلغة أدبية رفيعة مما يرتفع بالذوق الأدبي والثروة اللغوية للقارئ؛ الذي لابد أن يتمتع بمستوى لغوي وثقافي مناسب؛ ليتمكن من الإفادة من المكتبة العربية الكلاسيكية.
وإذا كانت هذه الظاهرة من مزايا التراث ـ وهي كذلك فإنها تؤدي إلى العزلة بينه وبين الجماهير التي تحتاج إلى تيسيره وتوطئته؛ إذ ليس من المعقول أن نطالب الجمهور الواسع بالارتفاع إلى المستوى الفني اللازم للتعامل مع التراث في الوقت الذي نعرف تماماً أن معظم الأكاديميين يلقون صعوبات شتى في هذا المجال؛ بل أن معظم المحاضرات في الأقسام الأدبية المتخصصة لا تُلقى باللغة العربية الفصحى!!.
15
تيسير التراث

إن عملية نقل التراث إلى الأجيال المعاصرة ليست سهلة، فإن احتمال التحريف المتعمد للقيم التراثية يعتبر من أبرز الأخطار التي اقترنت بما تم في هذا المجال؛ بسبب الغزو الثقافي الذي تعرضت له أرض الحضارة الإسلامية، والذي أدى إلى إحلال قيم ثقافية جديدة تتصل بالحضارة الغربية ولا ترتكز إطلاقاً على جذورنا الثقافية.
إن التيسير المطلوب والتوطئة المقصودة؛ تحتاج إلى أقلام تؤمن بعقيدة الأمة الإسلامية، وتُقِرُّ بجدوى تجديد روح الأمة وقيمها بالارتكاز على جذورها الحضارية والثقافية. ومن دون ذلك لن يكون التيسير إلا تشويهاً منظماً وتخريباً مقصوداً، ولن يثمر في تعميق الوحدة الثقافية للأمة بل سيزيد في الفصام، ويقوي التشتت والإحساس بالضياع وفقدان الهوية.

نعم، إن ثمة صحوة لابد من الاعتراف بها ومن تقويمها ..صحوة نحو إحياء التراث تختلف عن حركة "الرينيسانس" الأوروبية بكونها تلتصق بالجذور القريبة، ولا تعاني من مشكلة حذف مرحلة تاريخية معينة كما حدث لحركة الإحياء الأوروبية؛ إن هذه النظرة الإيجابية التي تتسم بها حركة الإحياء الإسلامية الحديثة ذات أثر عميق في التعامل مع التراث.
ولعل من المظاهر القوية لهذه الصحوة: الإقبال الكبير على تحقيق النصوص التراثية ونشرها، تتعاون في ذلك المؤسسات الجامعية والعلمية والتجارية، ورغم أن ذلك يتم بصورة عشوائية إلى حد ما؛ من حيث عدم الوضوح الاستراتيجي، وعدم تقديم الأولويات، بل عدم الاتفاق على قواعد نشر محددة، فإن ذلك سيؤدي حتماً إلى تكامل المكتبة العربية القديمة؛ مما يهيئ المجال أمام الباحثين للقيام بدورهم في التحليل والتركيب؛ بغية وصل الحاضر بالماضي، وفي الوقت نفسه دفع الحاضر إلى الأمام للِّحاق ببقية المتسابقين بالاعتماد على تقوية الجذور وتحديد الهوية خوفاً من الضياع في حلبة السباق. فلا بد أن تكون معالم الطريق واضحة، وأن تكون خُطا الأمة ثابتة واثقة، وأن يسودها روح التحدي للتخلف والتمرد على الواقع.
فالطفرات هي الوسيلة الوحيدة للَّحاق بالآخرين فضلاً عن سبقهم، وما دام الأمر كذلك فلا بد من دراسة التاريخ الحضاري العالمي وخاصة فترات الأزمات العصيبة التي مرت بالأمم، ولابد من أن تتحول الدراسات إلى روح عامة في الأمة ولا تقبع في مدارج الأكاديميين أو على رفوف المكتبات.

16
التحقيق العلمي للمخطوطات

لقد دخل إلى ميدان النشر تجار الكتب والطفيليون، فتم إخراج الكثير من المؤلفات بصورة سقيمة مليئة بالتحريف والتصحيف فضلاً عن الأخطاء الطباعية، وامتلأت جيوب هؤلاء بالمال على حساب التراث ومحبيه، حتى إذا اهتم العالم المتخصص بنشر كتاب ما بصورة علمية، وأمضى شطراً من حياته في خدمته؛ وجد أن السوق تعاني من سياسة الإغراق التي يستخدمها التجار بحيث لا يجد لكتابه مشترياً بعد أن اقتنى الناس نسخهم قبل صدور طبعته، ولا يكتفي التجار بذلك، بل هم يلاحقون كتابه حتى إذا رأوا نشره مجدياً اقتصادياً حذفوا اسم المحقق وطبعوه، وأحياناً صوروه وباعوه بثمن أقل؛ لأن كلفة التصوير وإمكانات الناشرين أقوى من المؤلف مما يُمكِّنهم من خفض الكلفة كثيراً.
إن الطريق السليم لإنقاذ حركة النشر يتمثل في دعم المؤسسات المعنية لها بواسطة الترشيد العلمي أولاً، ثم التبني للنشر ثانياً، ثم التكفل بالتوزيع ثالثاً، بحيث لا يتدخل المحقق في أعمال الطباعة والتسويق، وإنما تنحصر جهوده في التحقيق العلمي للكتاب وتسليمه للمؤسسة التي تتولى مكافأته وإخراج كتابه وتسويقه، ولا يقتضي ذلك أن يتضخم جهاز المؤسسات؛ إذ يمكن أن تتعامل مع دور النشر وفق شروط مناسبة، وسوف تكون أقوى بكثير وأقدر على فرض شروطها من المحقق.
إن مشاكل الكتاب كثيرة، وقد استمرت معاناة المؤلفين والمحققين منذ مطلع هذا القرن دون أن تتمكن الجهات المتخصصة من القيام بالمحافظة على حقوقهم المعنوية والمادية وحل المشكلات التي يعانون منها، وأبرزها: جشع معظم الناشرين، وقدرتهم على ابتزاز المحقق بحيث ينالون معظم الربح، ولا يبقى له إلاَّ اليسير. وكذلك "الروتين" القاتل في المؤسسات الرسمية وعدم ارتفاعها إلى مستوى المسؤولية. ثم عدم وجود اللوائح القانونية الكافية لحفظ حقوق التأليف والتحقيق، وكثيراً ما يتولى إدارة هذه المؤسسات رجال لا علاقة لهم بالعلم ولا بالكتاب.
إن كثيراً من الكتَّاب يركزون على ضرورة إخراج المخطوطات إلى حيز المطبوعات محققة بصورة علمية (مع عدم الاتفاق على الشروط العلمية المطلوبة أو تفاصيل المنهج المراد اتباعه ليكون التحقيق علمياًّ)، وهذا الهدف وإن كان مطلوباً؛ لكنه ينبغي أن يسبق بدراسات تفصيلية لسائر المخطوطات، وجدولتها حسب الفنون أولاً، ثم حسب الأهمية ثانياً، مع بيان مدى خدمة كل مخطوطة للفن الذي أُلِّفت فيه. إن هذه الدراسات ينبغي أن تتقدم تحقيق المخطوطات، لأنها الطريقة الوحيدة لترشيد عمل المحققين، وإبعاد حركة التحقيق عن السقوط في المتاهات، والتخبط بين ملايين المخطوطات، وإخراج بعضها وإهمال بعضها الآخر دون انتقاء علمي مبني على دراسات عميقة متخصصة.
إن المطلوب من المؤسسات المعنية بالمخطوطات ليس مجرد جمعها وإخراج عدد محدود منها إلى عالم المطبوعات، بل السعي الحثيث للتعريف بالمخطوطات بواسطة العلماء المتخصصين بالفنون التي تتناولها المخطوطات، وأن يتم ذلك بأقصى سرعة ممكنة، وذلك لتكوين رؤية واضحة للتراث المخطوط تمكِّن من تحديد الأولويات، وبذلك يتم ترشيد حركة تحقيق المخطوطات التي صارت تعاني من الفوضى وتفتقد حسن الانتقاء والتذوق العلمي السليم، فإذا كانت لدينا ثلاثة ملايين مخطوطة كما تذهب بعض الإحصاءات الحديثة في شتى الفنون؛ فينبغي أن ندرس أولاً ما إذا كانت تستحق كلها أن تبذل فيها الجهود للتحقيق والنشر.
إن المحقق قد يمكنه إخراج عشرة كتب في حياته ـ بالمتوسط ـ ومعنى ذلك أننا نحتاج إلى ثلاثمائة ألف محقق يمضون حياتهم لإخراج هذه المخطوطات!! وبالطبع فإننا لا نمتلك على صعيد العالم الإسلامي (1% ) من هذا العدد.

ملاحظة : نشرت هذه الواحة في ملحق التراث بجريدة الحياة، يوم السبت 30 ـ 7 ـ 2005م، الصفحة 15، العدد : 15460. ويوم السبت 6ـ 8 ـ 2005م.


thumb qr1 
 
thumb qr2
 

إحصاءات

عدد الزيارات
16430800
مواقع التواصل الاجتماعية
FacebookTwitterLinkedinRSS Feed

صور متنوعة