الشعوب المقموعة بين خياري حياة الذل، أو القتل البطيء على المدى الطويل
تتباين أنظمة الحكم البشرية، وتتأرجح الأنظمة صعودا وهبوطا بين جمع اللذة وطرح الألم من حياة الفرد والمجتمع، واللذة النقية الصافية لا يعقبُها ألَمٌ بل تُنتِج لذةً أُخرى، وتختلف سعة الحلقات التي تتمتع باللذة بشكل عَكْسِيّ مع الحلقات التي تتألم، وتتفاوت ما بين الجماهير المتألمة وبُغاة اللذة، ويُفرِز عادةً هذا الحراك القُوى الفعالة في جميع المجتمعات الإنسانية.
فإما أن تكون النُّظُمُ ديموقراطية، وإما أن تكون النُّظُمُ ديكتاتورية

الشعوب المقموعة بين خياري حياة الذل، أو القتل البطيء على المدى الطويل
د . محمود السيد الدغيم
باحث أكاديمي سوري في جامعة لندن
كلية الدراسات الشرقية والإفريقية
SOAS

تتباين أنظمة الحكم البشرية، وتتأرجح الأنظمة صعودا وهبوطا بين جمع اللذة وطرح الألم من حياة الفرد والمجتمع، واللذة النقية الصافية لا يعقبُها ألَمٌ بل تُنتِج لذةً أُخرى، وتختلف سعة الحلقات التي تتمتع باللذة بشكل عَكْسِيّ مع الحلقات التي تتألم، وتتفاوت ما بين الجماهير المتألمة وبُغاة اللذة، ويُفرِز عادةً هذا الحراك القُوى الفعالة في جميع المجتمعات الإنسانية.
فإما أن تكون النُّظُمُ ديموقراطية: تستوجب الثواب لأنها صالحة مثالية إيجابية فاضلة تُرجِّح التضحية الفردية من أجل التعادل والمساواة، وسعادة المجتمع القصوى، والسعادة المقصودة هي السعادة الأبدية العامة اللامتناهية، وهي من إنتاج الفضيلة التي تنتج الصداقة، وتبدأ حينما تنتهي الأنانية والانتهازية التي تنتج العداوة جرَّاء التعارض بين أنانية الفرد ومصلحة المجتمع العامة.
وإما أن تكون النُّظُمُ ديكتاتورية: تستوجب العقاب لأنها فاسدة مادية سلبية راديكالية انتهازية نفعية ترفض الأثرة العامة، وتلتزم الإيثار والإستئثار الفردي، وتُلحق الكوارث بالأخلاق العامة، وينعكسُ سوء فعلها على المجتمع بشكل عام، وهذه الفئة هي فئة مريضة بالسَّادية التي يتلذّذ أصحابها بتعذيب الآخرين، وتزدهر السادية إذا تحكّمت بمجتمع تسوده المازوشية القائمة على جَلْدِ الذات، ويَنْتُجُ عن حركيَّة السَّاديّة الحاكمة والمازوشيّة المحكومة مجتمعٌ مقموع مسلوب الإرادة لا ينتج إلا الآلام صعوداً نحو الحاكم، وهبوطاً نحو المحكوم.

وتكمن خطورة هذا النمط في تحوُّل الوسائل إلى غايات، وانحراف السلطة نحو التسلُّط والشهرة، وجمع الثروة بطُرق غير مشروعة حيثُ يتحكّم الطَّمَعُ باللّذة بالغرائز، ويدفع الديكتاتور وبطانته إلى الأعمال الحقيرة طلباً لِلَّذةِ الآنية الخاصة المتناهية، ويعلِّلون ذلك بأنهم ينصرفون عن الخير خشية الألم، وفي هذا تكريس لمنهج الشرّ، وفرضه من قِبل المستبدِّين الذين يُرجِّحون التضحية بالشعب للمحافظة على مناصبهم، ويحلِّلون لأنفسهم ما يحرِّمونه على المجتمع، وإذا طُولِبوا بالإصلاح تعلَّلوا بأن الظروف الداخلية والخارجية غير مناسبة للإصلاح، وأن تحمُّل التألم والعذاب واجبٌ قوميّ على أبناء المجتمع، وتتجلى خطورة هذه الفكرة في تجاوزها لحدود الذات، وفرضها على الآخرين، وهكذا يستمرُّ الفساد إلى ما لا نهاية.
الميزان الحضاري: حينما نستعرض الوضع العالمي العام، والعربي الخاص؛ نجد تبايُناً بين مجتمع وآخر، ودولة وأخرى، وسببُ ذلك نوعية التربية والثقافة إلى حدٍّ ما، ويُلاحَظُ أن ما يُسمّى بالقوى الإنسانية العُليا تريد الازدهار والخير العام والرفاهية، والانتعاش الاقتصادي والثقافي طلباً للرّخاء والبحبوحة والراحة، والتعاطف والتعاون، والتكافل الاجتماعي، والقُوى العُليا تؤيد الحصول على اللذة الإنسانية الروحية الراقية النوعية في ظلِّ الْمُثُلِ العُليا، والكبرياء والنزاهة والحرية والكرامة والشرف والتضحية، والاستقلال الشخصي، وذلك عن قناعة ذاتية تصدُر عن شخصيَّة عاقلة واعية لا ترضى بأقلِّ من السعادة العامّة، ولو أدّى ذلك إلى تضحية الفرد في سبيل الجماعة كثمرة للتناسق بين الفردي والاجتماعي القائم على القبول والاختيار دون قمْع أو إكراه، وحينذاك يقترب المجتمع من المدينة الفاضلة، أو دار العدل والاعتدال، وتدور آليات الضبط العام - في هكذا مجتمع - ضمن إطارين هما: إطار الضبط الخارجي الاجتماعي، وذلك باستخدام المكافآت والعقوبات المادية والمعنوية من سماوية أو أرضية، وإطار الضبط الداخلي الذاتي، وذلك بالاعتماد على الضمير الفطري والمكتسب والتربية والشعور بالواجب.

وبناءً على أكثرية ما يسود في المجتمعات من قِيم يمكننا المقاربة من تصنيف المجتمع، فإمّا أن يكون قريباً من الفضيلة، وبعيداً عن الرذيلة، أو قريباً من الرذيلة، وبعيداً عن الفضيلة، وهكذا يُمكن تصنيف المجتمعات والدُّول في مراتب يُعبَّرُ عنها بالدُّول المتقدِّمة، والدُّول المتخلِّفة، وهذا التصنيف بحسب الأكثريّة لا ينفي وجود أقلية متخلِّفة عن المجتمع المتقدِّم، أو أقلية متقدِّمة على المجتمع المتخلِّف.
المجتمع المتقدم: مقياس معرفة تقدُّم المجتمع هو استشراف الفضيلة الْمُمثَّلة بزيادة عدد السعداء من أفراد المجتمع جرَّاء رجحان الخير الإيجابي الذي يُعمِّم الفائدة والتقدُّمَ والرقي والسعادة العامة، وذلك بتفعيل العقل، والتزام الصدق والقانون، وتوفير العمل والربح والمكافأة لأكثرية أفراد المجتمع دون تمييز عنصري أو طبقي، وفي هذه الحالة يتمُّ تعميم الشعور بلذَّة إحقاقِ الحقِّ، والتمتُّع بنعمة استتباب الأمن العام، وما يرافقه من الإحساس بالأمن والأمان، وما يجرُّه من لذَّة الديموقراطية الصافية التي لا يعكرها الألم الناتج عن الظلم والقهر، وإنما تجسِّدها محبّة الناس، وتعاونهم واشتراكهم بالسعادة القُصوى التي تشمل أكثر عدد من الناس.

المجتمع المتخلف: تسود المجتمع المتخلِّف حالة من الهيستريا الجماعية التي توجهها المازوشية، فتخضعه لطبقة حاكمة سادية، وفي هذا المجتمع تنقلب المفاهيم، وتخضع أكثريّة الناس لسيطرة الفرد المستبدِّ، ولا تتحاشى رذيلة تسلُّطه، وما تنطوي عليه من شرٍّ سلبيّ يتجلّى في القول والعمل والفكر، ويُنْتِجُ الخطأَ والتراجُعَ والارتداد والارتكاس والانحطاط، والغش والكذب، ويؤدي إلى الإساءة والشقاء والنفور والشقاق، وسببُ ذلك أن مُحرِّك الرذيلة يجمع القُوى الدُّنيا التي تُحرِّكُها لذَّةٌ حيوانية ماديّة مُنحطّة تُرجِّح الكمية على الكيفية والنوعية، وتطمح إلى إشباع الغرائز النهمة، والرضا بما تيسَّر من الملذات بِغَضِّ النظر عن مصدرها وعِلَّتها، ولو كان نابعاً من الكسل والصخب والإثارة، وهذا هو جوهر السُّقوط في إغراءات الأنانية التي تبيح الدناءة لدى الْجواسيس والْمُخبرين، وتُشجِّعُ على التلوُّث والفساد والإفساد والتبعيّة، وتُخضِع الإرادة للغريزة في تغييب العقل، فتسود الفوضى التي تُنتج البطالة والألم والْحُزن والتعاسة، وينتشر الباطل فيضيع أمنُ الفرْد، وأمانُ الجماعة مما يؤدي إلى الخسارة العامّة، والفقر والتقشف والزهد والْمَلل والاكتئاب، وجَلْدِ الذات جسدياًّ (المازوشية) كعقوبة تتطلب قمْع الأنا الشعبية لِنيل رِضا الأنا النخبوية الموهوبة التي يمثِّلُها الديكتاتور المستبدُّ المريض بالسادية التي تُشعره بالتلذُّذ بتعذيب الآخرين لأنّ الديكتاتور الراديكالي المهووس يجد في تعذيب الآخرين تحقيقاً لذاته الغريزية الوضيعة، وهو يتقمَّص بذلك نموذج الشيطان المفسد، والانتهازية تحقِّق سعادة الديكتاتور بمشاركة بطانته التي تبتزُّ المجتمع، وتستمدّ سعادتها من التزلف إلى الديكتاتور المريض بالسادية.

رُبَّما يساعدنا هذا التصور على تصنيف دولنا وحكوماتنا العربية لمعرفة مواقعها على الخريطة الإنسانية، ومعرفة صنفها هل هي متقدِّمة؟
أم متخلِّفة؟
والغاية من ذلك هي أن نَعْرِفَ ونُعَرِّفَ أنفسنا قبل أن يضع لنا الآخرون تعريفاً مُجحفاً ندّعي أنه مؤامرة، مع العلم إنّ بداية المؤامرة تبدأ بالتآمُر على الذات من خلال جلدها جرَّاء المازوشية، وتنحطُّ إلى الحضيض جرّاء الساديّة الديكتاتورية.
ملاحظة : نشر الموضوع بتصرف في جريدة الحياة، ملحق تيارات ، الصفحة : 18 يوم الأحد 10/4/ 2005م

اضغط هنا





في الدول القمعية : يجب على الشعب أن يبجل الشخصيات الديكتاتورية، ويفرض النفاق على الناس فيحبون ما لا يحبون

thumb qr1 
 
thumb qr2
 

إحصاءات

عدد الزيارات
16432518
مواقع التواصل الاجتماعية
FacebookTwitterLinkedinRSS Feed

صور متنوعة