الإشتراكيون والعلمانيون والليبراليون ، تعددت الأسماء والجوهر الديكتاتوري واحد

الإشتراكيون والعلمانيون والليبراليون ، تعددت الأسماء والجوهر الديكتاتوري واحد

د . محمود السيد الدغيم
باحث أكاديمي سوري في جامعة لندن
كلية الدراسات الشرقية والإفريقية
SOAS

تتعدَّد أسماء القوى السياسية والثقافية والفكرية والدينية والمذهبية في البلدان العربية، وربما يرتبط تعدُّدها بظروف الزمان والمكان، وتعدُّد الأنظمة الحاكمة واختلافها وائتلافها، ولكن الجامع العام لهذه القوى من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين صعوداً وهبوطاً، وبكلّ أطيافها القومية والمذهبية، هو انتهازية الديكتاتورية الْمُفْرِطَةُ والْمُفَرِّطَةُ، والقائمة على الإفراط والتفريط، فهذه القوى المتناقضة المتعارضة تُعرب عن نفسها بتبني الصراع التناحري في تصرفاتها، والإعراض عن الحوار والجدل المحمود القائم على طلب الحقيقة حيثما وُجِدت.
 
والمشكلة الإشكالية: أن كافة القوى المتصارعة في البلدان العربية هي انقلابية، تعتمد الانقلاب  PERIPETEIA وهو نمط معروف قديم تحدث عنه أرسطو وأعطى مثالا عليه في المشهد من "أوديب ملكا" لسوفوكليس، وفيه يعتقد المرسل الأول أنه سيحرر أوديب من الخوف، ولكنه يقوم بما هو نقيض ذلك تماماً، والقوى في البلدان العربية بكلِّ أطيافها تتحدث عن الديموقراطية، وتعمل نقيضها تماماً، فهذه القوى تعني ديموقراطيتها هي نفسها، وقوميتها نفسها، ومذهبها ونحلتها وبدعتها، وعجرها وبجرها، وذلك يقتضي حسب هواها بأن يخضع لها الجميع طوعاً أو قهراً، ويقوم الجميع بتنفيذ ما تريد، ولو أدى ذلك إلى إلغاء الآخر المعادل أو المعارض أو المناقض، ويتساوى في هذا المنهج الليبراليون الجدد، واليمينيون واليساريون والعلمانيون والمتدينون، فالكلُّ ديموقراطيٌّ مع نفسه، ديكتاتوريٌّ مع الآخر، وكفى بهذه النرجسية دليلاً على نقضِ ما يدَّعون، وتسفيه ما يطرحون.

إن مَن يستعرض واقع التناقض الفكري والسياسي على الساحات العربية يلاحظ شبح الدادية DADAISM ذات النزعة العدمية التي تحتج على المنطق والعرف والقواعد والْمُثل العليا والأدب، وتطالب بحرية مطلقة للذات على حساب الآخرين، وإلى جانب شبح الدادية المزدهرة في البلدان العربية بين العرب والأكراد والتركمان والفُرس والآشوريين والسريانيين والعبرانيين والأرمن وغيرهم، يلاحظ وجود شبح السيريالية التي ورثتها، ويتجسَّد الشبحان من خلال صنمية FETISHISM  مفرطة تقوم على النظر إلى الذات المادية والفكرية باعتبارها مقدسة، وتجسد قوَّة خفيَّة لا يدرك كُنهها إلاّ صاحبها والمؤيدون، ويتساوى في ذلك الرجعيون المعاصرون والتقدميون الثوريون والليبراليون والشوفينيون والعلمانيون والعولمينون والراديكاليون، فلكل فريق أصنامه المقدسة التي تسمو على أصنام الآخرين، ويستدعي تبجيلاً أو توقيراً أو تكريساً مطلقاً يتسم بالخلود الملازم للقائد الخالد، والحزب الواحد، والديكتاتورية ذات الرسالة الخالدة، ولو تطلب التبجيلُ سيادة الأشياء على الإنسان دون تقدير لإنسانيته، وهذا السُّلوك الأعوج هو أقوى أسباب الاستلاب  ALIENATION الذي أدَّى إلى تحويل خصائص الإنسان - في البلدان العربية - وقدراته ونواتج نشاطه - داخل علاقات الاستغلال والقهر- إلى أشياء خارجية غريبة على الإنسان، ومسيطرة عليه، وهذا ما يؤدي إلى التشويه داخل ذهن الإنسان لعلاقاته الحيوية، وللعالم المحيط به، وذاته نفسها، ونتيجة ذلك هي الضياع والتخبط.

وعندما يدور النقاش بين مواطنين بغض النظر عن قوميتهما، أو مجموعة من المواطنين "المفكرين" يلاحظ المراقب ملامح الاستلاب المسيطر على الجميع من قمَّة الهرم إلى قاعدته، ويبدو العالم للأكثرية منهم معادياً، وتبدو الذات معادية، وبما أن العداء يجرُّ العداء، فإن الرفض يصبح المحرِّك الذي يوجِّه الفرد الممتلئ بمشاعر الوحدة المغتربة الغارقة في العزلة، وبمشاعر الرفض للمجتمع، وتصبح قدراته قوَّة غريبة تعارضه وتخضعه بدلاً من أن تخضع لسيطرته، وينحصر الفرد في دائرته الخاصة سجيناً لنشاطه الخاص عاجزاً عن فهم علاقاته التي استلبها القمع والقهر، وينسحب تشيؤ أنشطة الفرد على سلوكه الهابط الذي يتجلى في رغباته الطائشة - الوحيدة الجانب - التي تقمع رغباتٍ أخرى، وتسيطر على الفكر الآخر، ويصبح الفرد عاجزاً عن تحقيق إمكاناته الكامنة بمقدار عجزه عن التواصل والتضامن مع الآخرين، فهو يفقد الإحساس بالواقع، ويغترب عن ذاته، وتصبح أنشطته جزءاً معوّقاً للأنشطة البشرية في ظل الاستلاب مما يحول الحياة الاجتماعية إلى ما يشبه مسرحيةً فاشلة على مسرح اللا معقول، وهذا ما يدفع النظارة إلى الانفضاض والنفور والتنافر لانعدام وجود جامع مُشترك يجمع بينهم وبين المسرح والمسرحية.

إن سيادة الاستلاب على مسارح الحياة في البلدان العربية أدى إلى احتضان كل أنواع الصراع، CONFLICT وما ينطوي عليه من أنواع التضارب والنزاع ابتداءً بالنمط البدائي، ومروراً بالصراع الاجتماعي، ووصولاً إلى الصراع السيكولوجي داخل النفس، وما يتبع ذلك من أشكال الصراع الفرعية التي تتشكَّل من مزيجٍ مُتفاوتِ النسبة بين ضروب الصراع الثلاثة: الطبيعية والاجتماعية والنفسية، والنتيجة الحتميّة للصراع المركَّب هي اضطراب العلاقات بين الجزء والكلِّ على كافة الأصعدة والمستويات الفكرية، وهذا ما يتَّضح للمراقب الحيادي، والدليل: أن الأفراد (المواطنين) يفشلون داخل مسارح البلدان العربية المستلبة، ولكنهم ينجحون بنسبة أفضل حينما يخرجون من مسرح اللامعقول إياه إلى الفضاء العالمي، ولكنهم يعودون إلى العبث فور عودتهم إلى مسارح الوطن لينسجموا مع روح الطوطم الجماعية المستلبة، ولذلك يمكننا القول: إن إصلاح المسارح ضروري لإصلاح الممثلين، وربط النظارة بالمسرحية النافعة غير العبثية.

بالإضافة إلى الاستلاب يتمسك فريق بالكلاسيكية (الاتباعية)  CLASSICISM التي تقوم على أفكار ومواقف مسبقة ترفض الواقعية والرومانسية، وتطالب بالتعبير عن الأفكار بشكل محكم التوازن والتناسب يحدُّ من انطلاق الانفعالات والأهواء، ويجسّد الوضوح المباشر البسيط بُغية الوصول إلى المقدرة على التفكير، والتوصيل بطريقة تقترب كثيرًا من الموضوعية، وتبتعد عن الذاتية  SUBJECTIVITE التي تهتم بالتركيز على النفس، وانشغال الشخص بنفسه ومشاعره وتجاربه وخوّاصه، وإغفاله الموضوعية استجابةً منه للفردية المفرطة حيث يصبح العنصر المركزي هو إفضاء الشخصية بعالمها الداخلي لإبراز الذات على حساب الآخر، وهذا المرض يؤدي إلى سيادة الفقر الفكري الذي تنتجه الذاتية المغلقة للأحزاب الشمولية؛ التي تحتلُّ وسائل الإعلام في الساحات العربية التي تنتج هذا الخواء القائم على التناحر، في ظل غياب روح الجماعة المتعاونة على البِرِّ والتقوى، ولا تأبه بالعالم الخارجي وما فيه من وعي القوى الخيِّرة، وبذلك تسود المقاييسُ الفردية الديكتاتورية، وتعطَّلُ المقاييس الجماعية، فتضطرب المقاييس والموازين، وتضيع الحقوق، ويحصل الخلط بينها وبين الواجبات دون قيود أو حدود تفصل بين الحق والواجب مما ينتج اللامبالاة التي تفضي إلى الفوضى التي نشاهدها على مسارح السياسة والقمع والعنف غير المشروع في رحاب البلدان العربية.

خلاصة القول: إن الشعوب التي تقطن في البلدان العربية بكل عناصرها، والمفكرين المنتمين لتلك الأقوام يعيشون في ظلال أزمةٍ CRISIS ، ولكنها أزمةٌ مركَّبة متعدِّدة الأمراض، ولئن كان المعنى العالمي المتداول للأزمة هو: "نقطة تحوّل إلى الأحسن أو الأسوأ في أي مَنشط من المناشط" فإن الأزمة عند سكان البلدان العربية هي أزماتٌ مأزومة لا تبشّر بتحوّل إلى الأحسن، وإنما تنحدر نحو الأسوأ الذي يؤدّي إلى الاضمحلال والضياع بشكل يومي تدلُّ عليه وقائعُ الأحداث المتتابعة، وما تفرزه من إراقةِ دماءٍ عربية وكردية وتركمانية ومسيحية وشيعية وسُنية بريئة، مَرَّةً برصاصٍ أجنبيّ، ومرّة برصاصِ أجهزة المخابرات الرسمية، ومرّة برصاص المتمردين على الأنظمة الحاكمة أو الأنظمة المحتلة، أو رصاص الأحزاب المتصارعة، والمحصلةُ واحدةٌ هي إراقة الدماء بدلاً من الحوار الذي يؤدي إلى الرُّقي والسعادة الإنسانية، والظاهر على الساحات العربية  في الحاضر والمستقبل المنظور: أنّ كلَّ فريق متمسِّك بقراره بعدما عَقد العزم، وأقرَّ القرار على المسير في مسار فردي واحد لا تدخله التعديلات، بل سيواصل سيره حتى يفنى أحدُ الفريقين المتناحرين لأنَّ الفردية والشمولية لا تقبل التنازل الطوعي في ساحات الصراع بين القوى المتضادّة المتناحرة، ولو كان سبب تناحرها انفعالياً تافهاً رغم ما يُسْبَغُ عليه من تصويره بصورة الذروة " Climax " في فَهْمِ الأتباعِ والأنصار والمؤيدين.

وفي ظِلِّ هذا الواقع الرديء تغيب بشائرُ عصرِ نهضةٍ إنسانية تعيد إحياءَ الفنِّ والمعرفة والأدب والعلم والدين والسياسة، وتفتح أبواب الواقع الراهن على عصر نُمُوِّ المدنية والحياة الحضرية، وازدهار التجارة والأسفار، وتبادل العلوم والمعارف، والمساهمة في بناء عالم يسوده العدل والمساواة، عسى أن تودّع الشعوب التي تعيش في البلدان العربية عصر الظلام الديكتاتوري مثلما تودّعه بقيَّة شعوب العالم طلباً للإنصاف وللحرية، ورفضاً للعدمية والاستلاب والشمولية، والديكتاتوري العسكرية التي عطلت البُنية المعرفيّة المبنيّة على اكتشاف التشابهات، وكرّست إبراز الاختلافات والتمايزات بعيداً عن روح العصر الراهن الذي يبني معرفة التطور البيولوجي والاقتصادي واللغوي والسياسي والعلمي والأدبي، وكأن المتناحرين في البلاد العربية يعيشون في كوكب آخر لا يصله نور المعرفة، ولا تحكمه سُنن الكون القائمة على الحوار الإنساني.



ملاحظة: نشرت في ملحق تيارات بجريدة الحياة الصفحة : 18، العدد 15272 ، يوم الأحد 23/ 1/ 2005م.

thumb qr1 
 
thumb qr2
 

إحصاءات

عدد الزيارات
16409214
مواقع التواصل الاجتماعية
FacebookTwitterLinkedinRSS Feed

صور متنوعة