تجديد الخطاب الإسلامي المجتهدين والسوفسطائيين سابقاً ولا حقاً

د. محمود السيد الدغيم

باحث أكاديمي سوري مقيم في لندن

قال الشريف الجرجاني في كتاب التعريفات: الخطابة هي قياس مركب من مقدمات مقبولة، أو مظنونة، من شخص معتقد فيه، والغرض منها ترغيب الناس فيما ينفعهم من أمور معاشهم ومعادهم، كما يفعله الخطباء والوعاظ.

تعددت الخطابات والمخاطبات الإنسانية، وشملت الأديان والفلسفة، والعلوم العقلية والنقلية، وأقوى أسباب تعدد الخطابات وتنوعها هو تعدد القراءات المتنوعة، فكما أن "كلّ يغني على ليلاه" فكل يقرأ بطريقته الخاصة، ولذلك لا يمكننا التحدث عن خطاب إسلامي واحد بل عن العديد من الخطابات الناتجة عن العديد من القراءات.

ولدى استقراء الخطاب الإسلامي نستطيع أن نرصد الكثير من أنواعه، ونستطيع تصنيف الخطاب من حيث التزامه جوهر الإسلام، أو تمسكه بالقشور والبدع وتهاونه بالجوهر، وقد تتداخل أنواع الخطاب شاقولياًّ في عمق التاريخ، وأفقياًّ عَبْرَ الجغرافيا، ولكن يمكننا الفصل بين خطاب وآخر بفواصل افتراضية تاريخياًّ وجغرافياًّ لكي نستطيع مقاربة تحديد الخطاب المقصود.

وبناء على ما تقدم يمكننا القول: امتاز العهد النبوي بخطاب إسلامي جوهري واحد تضمنه القرآن الكريم، وشكلت السنة النبوية شرحاً لذلك الخطاب، إضافة إلى اجتهاد الصحابة الذي حظي بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم، أما الخطاب الذي شكك بالخطاب الإسلامي فهو خطاب المنافقين. والخطاب الذي عارض الخطاب الإسلامي هو خطاب غير المسلمين من المشركين وأهل الكتاب.

وبعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه تجسد خطاب المنافقين في خطاب أهل الردة الذين ارتدوا عن الإسلام، وقدموا خطابا شاذاًّ استوجب الحرب لقطع دابر الفتنة والقضاء على التمرد الْمُسلَّح.

وبعد استشهاد الخليفة الراشد الثالث - عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة 35 هـ/ 656م – وقعت الفتنة، وتبنى المسلمون أكثر من خطاب، وعزز كل فريق خطابه بشكل شرعي.

وامتاز عصر الخلفاء الراشدين بميزة فقه الحاكم، فالخلفاء الراشدون كانوا مركز السلطة والفقه معاً يساعدهم أهل الشورى أصحاب الخبرة في كافة شؤون الحياة.

وفي عام الجماعة سنة 41 هـ/ 661م بدأ عهد الخلافة الأموية، وبرز مركز السلطة، ومركز الفقهاء المصلحين الداعم للسلطة، وبمواجهة المصلحين المسلمين ظهر أتباع المنافقين، وحاولوا تقديم خطاب مشوب بالفكر المُستورَد من البدع غير الإسلامية، واعتمدوا على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية لتأثرهم ببعض الفلسفات المستوردة، ولذلك انحرفوا عن عقيدة أهل السنة والجماعة، وقدموا خطاباً مخالفاً تولَّدَ من قراءةِ النصوص الدينية قراءةً عقلية مجردة اعتماداً على الفلسفة اليونانية والهندية والعقائد اليهودية والنصرانية، وبذلك أدخلوا في خطابهم ما ليس من الإسلام في شيء.

وبرز في عهد الخلافة الأموية معبد الجهني الذي قال بمقولة: " مقولة أن الإنسان حر مختار بشكل مطلق ، وهو الذي يخلق أفعاله بنفسه" وقد خرج معبد الجهني على الخليفة عبد الملك بن مروان، وانتقلت حركته من الجدل الفكري إلى العصيان المسلح حينما انضم إلى عبد الرحمن بن الأشعث فقام بقتل معبد الجهني الحجاجُ بن يوسف الثقفي سنة 80هـ/ 699م، ثم فشلت تلك الحركة عسكرياًّ بعد هزيمتها أمام الحجاج في معركة دير الجماجم سنة 82 هـ/ 702م، ولكن خطابها التخريبي لم يَمُتْ بل استمر سراًّ.

ثم جهر بتلك المقولة غيلان الدمشقي حينما لاحظ ضعف سلطة الدولة في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز بن مروان، واستمر في تقديم خطابه الشاذ حتى آلت الخلافة هشام بن عبد الملك بن مروان، واستعادت السلطةُ قوّتها فأمر الخليفة هشام بإجراء المناظرة بين ميمون بن مروان وغيلان الدمشقي، ولم ينكر غيلان خطابه الشاذ، وقطعه ميمون بن مروان بالمناظرة، وأبطل حجته الواهية، ولما لم يرتدع غيلان عن الإفساد أمر الخليفة هشام بقتله.

ورغم قتل معبد الجهني و غيلان الدمشقي، فإن هذا الفريق لم يرتدع بل أضاف إلى البدعة الأولى في خطابه بدعة أخرى هي مقولة:" خلق القرآن ونفي الصفات " التي قال بها الجهم بن صفوان ، فقتله سالم بن أحوز في مرو سنة 128هـ/ 745م، وتبعه بنفي الصفات الجعد بن درهم، فقتله خالد بن عبد الله القسري والي الكوفة، وقد قدم أولئك المنحرفون خطابا يقوم على التعطيل والجبر وتعطيل الإرادة الإنسانية.

وامتداداً لذلك الشذوذ الفكري ظهر خطاب المعتزلة الذي بلوره واصل بن عطاء الغزال 80هـ/ 699م :131هـ/ 748م الذي خالف شيخه الحسن البصري ت سنة 110 هـ/ 728م، وقال واصلُ: إن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين ( أي ليس مؤمنا ولا كافراً ) وأنه مخلد في النار إذا لم يَتُبْ قبل الموت.

واستمر تنظيم المعتزلة ما بين السرية والعلنية حتى استطاع أن يسيطر على السلطة حينما آلت الخلافة العباسية إلى المأمون بن هارون الرشيد الذي أخذ الاعتزال عن طريق بشر المريسي ت سنة 218 هـ/ 833م، وثمامة بن أشرس النميري ت سنة 213هـ/ 828م، وقاضي المعتزلة أحمد بن أبي دُؤَاد ت سنة 240 هـ/ 854م.

وحينذاك تخلى المعتزلة عن الخطاب السلمي، وأظهروا الخطاب الدموي والقمع، وفرضوا آراءهم الشاذة بالقوة على أهل السنة والجماعة، وخضع لهم كافة علماء بغداد، ولم يصمد في وجههم سوى الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح رحمهما الله فقط لا غير، واستمرت محنة الإمام أحمد بن حنبل في خلافة المأمون والمعتصم والواثق.

ولما آلت الخلافة المتوكل سنة 232هـ/ 847م أنهى سيطرة المعتزلة على الحكم ومحاولاتهم فرض عقائدهم بالقوة الغاشمة، وأعاد المتوكل لخطاب أهل السنة والجماعة مكانته اللائقة، وأكرم الإمام أحمد بن حنبل، وأقفل أبواب الاجتهاد بوجوه أهل البدع، وسمح بالاجتهاد على المذاهب الأربعة: المالكي والحنفي والشافعي والحنبلي فقط لا غير، ولا صحة لما يروجه الذين يدَّعون إقفال باب الاجتهاد عند أهل السنة والجماعة، وتلك دعوى باطلة لا أساس لها من الصدق.

ومنذ صَدْرِ الإسلام تبلورت المواجهة بين أهل الحق وأهل الباطل، وظهر خطاب أهل السنة والجماعة بمواجهة بقية الخطابات الأخرى، وبدأ تشكل المذاهب الإسلامية منذ عهد الخلافة الإسلامية الأموية ثم العباسية ، وقدم كل مذهب خطابه الخاص القائم على الاجتهاد المشروع، وشذَّ أهل البدع، وظهرت الفُرق.

ووُضِعَت الكتب في تصنيف تلك الفرق وبدعها، ووصلتنا كتابات نقدية لكل خطاب من خطابات تلك الأيام، ومن تلك الكتب: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، لأبي الحسن الأشعري، والفرق بين الفرق، لعبد القاهر البغدادي، والملل والنحل، للشهرستاني، والفصل في الملل والأهواء والنحل: لابن حزم، والتنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع: للملطي، التبصير في أمور الدين: للإسفراييني، وفرق المسلمين والمشركين: للرازي، والمواقف: للإيجي، وأبكار الأفكار، لسيف الدين الآمدي.

ولم تخلُ الساحة الإسلامية من تعادُل الخطابات، وتعارُضها وتناقُضها أيضاً، ولكن تقييم تلك الخطابات ليس مستحيلاً بل مُمكنا حيث أن المصدر الأساسي لتقييم الخطاب الشرعي هو القرآن الكريم، والسنة النبوية، واجتهاد الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وقد وضع علماء المسلمين علم أصول الفقه، وهو ميزان الفقه، ويشبهه علم المنطق الذي يعتبر ميزاناً للفلسفة.

واستقراء تاريخ الخطاب الإسلامي يكشف لنا أنه واكب مسيرة الحياة البشرية، وقدم حلولَ القضايا والمسائل الطارئة، واستعمل العلماء عقلانية القياس الشرعي بقياس الفرع على الأصل بعلة جامعة بينهما، وبرز عبْرَ التاريخ مصلحون مسلمون أحْيَوا السنة، وحاربوا البدع، وتداول العلماء مصطلح إحياء السُّنة النبوية والإصلاح منذ أيام الشيخ أبي حامد الغزالي 450 حتى 505 هـ / 1058 حتى 1111م،

وأُطلقت صفة: محيي السنة على الإمام أبي الحسين محمد بن الحسين البغوي ت 516هـ/ 1122م.

وتكرَّست لدى المسلمين فكرة تقول: ما من قرن يمرُّ إلاَّ ويقيِّض الله خلاله مُصلحاً يحي السنة ويقاوم البدع، وفي هذا المجال اعتُبِر شيخ الإسلام ابن تيمية – 661 – 728هـ/ 1263 – 1328م - من أعظم مصلحي زمانه، وقد وقف بوجه السلطة، وتحمل السجن والعذاب جراء وقوفه بوجه أهل البدع المتعاونين مع السلطة القمعية، ومحنته مشابهة لمحنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وقد مات ابن تيمية في سجن القلعة بمدينة دمشق.

وخلف الشيخ ابن تيمية مدرسة اقتدى شيوخها بالسلف الصالح، وعارضوا بدع الفرق المخالفة كما عارضوا رموز السلطة الذين رجحوا مهادنة الأعداء، وفضلوا المصالح الدنيوية الدُّنيا على المصالح الدينية السامية، وقدم المصلحون خطاباً إسلامياًّ متطوراً واكب تطور الحياة العامة، وقدم خطاباً مناسباً لكل زمان ومكان، ويمكننا الوقوف على سيرة أولئك الأعلام بالعودة إلى كُتُب الطبقات التي تحفل بالكثير من الرؤى المميزة التي قدمها المصلحون المسلمون عبْر القرون.

ولدى رصد تاريخ الخطابات نجد أنه ظهر خطاب إسلامي مقاوم واكب الصراع مع أعداء الإسلام، وكلما ازدادت شراسة الصراع نجد الخطاب الإسلامي يتأثر بما يعاصره من معطيات، ولذلك نجد في الخطاب الإسلامي روح المقاومة ضد التتار الذين أسقطوا بغداد سنة 656 هـ/ 1258م، أما خطاب أهل البدع فكان مؤيداً للجيوش الغازية، ويمثله نصير الطوسي الذي قدِم إلى بغداد في ركاب هولاكو، وهكذا استمر التناقض بين الخطاب الإسلامي الإصلاحي وبين خطاب أهل البدع.

ولما حل الضعف في أطراف الخلافة الإسلامية العثمانية في القرن التاسع عشر برز أكثر من خطاب في رحاب العالم الإسلامي الممتد من إندونيسيا إلى البوسنة والهرسك، وتجلى الخطاب الإسلامي من خلال ما عُرفَ بالجامعة الإسلامية، وبرز خطاب التغريب التام، وبين الخطابين برز خطاب التوفيقيين أو التلفيقين ، وهؤلاء أمسكوا بالعصا من الوسط، وسوَّقوا أنفسهم تحت مُسمى رجال النهضة، وهم غير رجال الإصلاح المنضوين تحت مسمى الجامعة الإسلامية، ومرَّت الحرب العالمية الأولى، وأسفرت عن إلغاء الخلافة الإسلامية، ووقوع بلدان العالم الإسلامي تحت الاحتلال المباشر أو غير المباشر.

وبعد الحرب العالمية الأولى دخلت الماركسية بقوة في العالم الإسلامي، وظهر خطاب إسلامي موالٍ للماركسية الإلحادية، وناقضه خطاب إسلامي موالٍ للرأسماية الغربية المادية، وخالف الخطابين الشاذين خطابُ المسلمين الإصلاحيين الذين رفضوا رأسمالية الغرب وشيوعية الشرق، وتمسكوا بجوهر الإسلام، ولكن هؤلاء خسروا السلطة في العالم الإسلامي حيث أن الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية والإسلامية تفرقت في تبعيتها بين تأييد حلف وارسو الشيوعي، وحلف الناتو الرأسمالي، ولذلك قامت أجهزة أمن السلطة بتعذيب وقتل المصلحين المسلمين في معظم البلدان الإسلامية، وتعرض المصلحون للمحنة المشابهة للمحنة التي تعرض لها الإمام أحمد بن حنبل، وظهرت في بلدان العرب والمسلمين فُرَقُ مؤيدي السلطات الحاكمة، وهؤلاء يشبهون المعتزلة الذين أيدوا المأمون العباسي إلى أبعد الحدود، وقد استفادوا من مقدَّرات الدول وقدموا خطابهم المشبوه عبْر وسائل الإعلام الحكومية، ونشروا بين الشعوب الكثير من المذاهب السياسية الوافدة.

ولكن معتزلة العصر الراهن لم يعلنوا اعتزالهم بل تستروا بشعارات متعددة مثل القوميين الإسلاميين، والتيار الديني المستنير، أو اليسار الإسلامي، أو العقلانية والتنوير والتجديد والتحرر الفكري والتطور والمعاصرة، وغير ذلك من التيارات والأحزاب.

ولدى استقراء الخطاب الذي يقدمه هؤلاء، نجد أنهم قد حاولوا تفسير النصوص الشرعية وِفْقَ العقل القاصر، وتأثروا بالفكر الغربي العقلاني المادي البحت، واعتمدوا التأويل غير المشروع البعيد عن روح الإسلام، وزعموا أن العقل هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة الشرعية وغير الشرعية.

وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق، وبروز الهيمنة الأميركية تصاعدت الهجمات الخطابية المعادية للإصلاح الإسلامي، وبرز خطاب يروج لتغيير الأحكام الشرعية التي وردت فيها النصوص اليقينية من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وما تعارف عليه المسلمون من حرام وحلال، ونقله الخلف عن السلف بالتواتر.

إن استعراض خطاب المسلمين المصلحين يتعارض مع خطاب المفسدين من العلمانيين والوجوديين واليساريين واليمينيين والحداثيين، وذلك أن خطاب المصلحين يقوم على أساس إسلامي غير مشبوه، وخطابات الآخرين تقوم على تمكين المناهج الفلسفية الوافدة الغريبة، وتغييب المنهج الإسلامي السليم، ونرى الكثير من الفُرق التي تروج لخطابات تقدم الإسلام بصيغة غير إسلامية، وتدعي أن ما تقدمه هو الإسلام الصحيح، وتلك الخطابات هي خطابات الترويض، ونشر الخضوع للأجنبي الطامع بالمسلمين وما يملكون من ثروات طبيعية.

أما خطاب المسلمين المصلحين فقد قدَّم رؤيةً متطورة في مجال الفكر، وذلك باعتبار الإسلام الصحيح هو المرجع الذي تُقاس عليه الفلسفات والحضارات الأخرى، وليس العكس، فمرجع الخطاب الإسلامي هو الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وقراءة تلك النصوص بقراءات السلف الصالح ، وليس بقراءات ماركس وإنغلز وروسو وغوبلز ونيتشة وكونفوشيوس وماني وزرادشت.

ولكن خطاب المصلحين المسلمين مازال متخلفاً في مجالات العلوم الصناعية العصرية، وسبب ذلك أن القوى المناوئة للإسلام والمسلمين تحتكر تلك العلوم، وتسمح بنقل الفلسفة والآراء السياسية التي تؤدي إلى الإحباط، وتؤذي المسلمين، وتقدِّم خدمات مجانية لأعداء الإسلام، وهذه البضاعة غير مقبولة عند المصلحين المسلمين.

إن تجديد الخطاب الإسلامي يقتضي العودة إلى منابع الإسلام الصافية القائمة على التسامح والسلام والمحبة، وليس بالعودة إلى الماركسية والنازية والفاشية التي تكرس الإرهاب والكراهية، وتُلبسها لباس الإسلام تمويهاً لها، وتشويهاً للإسلام، ويبقى المطلوب قراء إسلامية للإسلام تنتج خطاباً إسلامياً معاصراً يلبي ما تحتاجه الأمة من إيضاحات تقتضيها المرحلة الراهنة، وبمعنى آخر: المطلوب أسلمة الخطابات الغريبة، وليس مركسة الإسلام أو تهويده.