للتحميل  : الكتاب : المحاضرات في اللغة والأدب
المؤلف : الحسن بن مسعود بن محمد بن يحيى بن يوسف، اليوسي، المغربي

 

رابط تحميل الكتاب

اضغط      icon al-Muhadarat Fi al-Adab.zip (283.81 KB)     هنا


كتاب المحاضرات من أجل آثار اليوسي التي تنيف على أربعين أثراً أدبياً ما بين رسالة وكتاب. وهي في كثير من فصولها أشبه بالرحلة، سجل فيها اليوسي تنقلاته ومشاهداته في بلاد المصامدة عام 1095هـ الموافق 1684م قال الشيخ عبد الحي الكتاني: (وكتابه المحاضرات عجيب في بابه، غريب في ترتيبه وأسلوبه، وكأنه في ترجمة نفسه، ألفه بسبب ما كان وقع بينه وبين عبد الرحمن بن عبد القادر الفارسي رحمهم الله لما افتتح التفسير بالقرويين

****

عرف اليوسي باسمه ونسبه في المحاضرات فقال: "أنا الحسن بن مسعود بن محمد بن يحيى بن يوسف، وهذا هو أبو القبيلة ابن داوود بن يدراسن بن يلنتن... وشرح فيها نسبته باليوسي فقال: ...وأما اليوسي فأصله اليوسفي كما مرّ من أن يوسف هو أبو القبيلة... وأورد بها كناه ومن كناه بها من الأشياخ والفضلاء فقال: والكنية أبو علي وأبو المواهب وأبو السعود... أما أبو علي وهي كنية الحسن المشهورة فكناني بها الشيخ الإسلام أبو عبد الله بن ناصر الدرعي... وذكر اليوسي أولية أمره في فهرسه فقال: كنت في صغري نفوراً عن التعليم، فكنت أتنكب المكتب وأكمن في طريق الصبية حتى إذا خرجوا من المكتب جئت معهم إلى أهلي كأني قد قرأت معهم، فمكثت على ذلك مدة، ثم توفيت والدين فتنكرن علي الأرض وأهلها. وكان ذلك سبب الفتح، فألقى الله في قلبي قبول التعليم فدخلت أتعلم

****
أما رحلات اليوسي في طلب العلم ولقاء الشيوخ فيقول عنها الكتاني في فهرس الفهارس: "جال المترجم في بلاده المغرب حاضرة وباديه لأجل طلب العلم فسافر إلى بلاد البربر وسوس وبلاد الساحل، وأخذ عن أعلام فصل أخذه عنهم تلميذه الهشتوكي في "قرى العجلان" وإن لم يذكر ذلك هو في فهرسته... وتصوف اليوسي على يد الشيخ أبي عبد الله بن ناصر، أخذ عنه العهد، وصار يلقن طريقته للمريدين... أما على الباطن فعمدته فيه هو الإمام أبو عبد الله بن ناصر، واليوسي هو الذي أنشأ الزاوية الناصرية القائمة بمراكش، والواقعة بي روض العروس".
خلف اليوسي نيفاً وأربعين أثر كتابياً ما بين كتاب ورسالة. كما وخلف محاضرات في الأدب واللغة، وهي هذه التي بين يدينا، بدأ اليوسي كتابة هذه المحاضرات عام 1095هـ-1684م، بدأها وهو في رحلة ببلاد مصمودة. ويذكر اليوسي الباعث على الأخذ في تأليفها فيقول: "إني قد اتفقت لي سفرة بأن بها عني الأهل شغلاً وتأنيساً، وزايلني العلم تصنيفاً وتدريساً، فأخذت أرسم في هذا المجموع بعض ما حضر في الوطاب، مما أطال فيه أو حان له إرطاب، وسميته المحاضرات ليوافق اسمه مسماه، ويتضح عند ذكره معناه، وفي المثل: "خير العلم ما حوضر به".
وإنما أذكر فيه فوائد وطرقاً وقصائد ونيفاً، وذلك مما اتفق لي من أيام الدهر من ملح، مما ينتقي ويستملح، ولا أذكر نادرة فيها معنى شريف إلا شرحته، ولا لطيف إلا وشحته، وذلك هو لباب الكتاب وفائدة الخطاب. وقد أذكر بعض ما صورته هزل يستهجن، وفيه سر يستحسن، وكما أن المقصود من الشجار ثمارها، فالمطلوب من الأخبار أسرارها.وإنما حملني على الأخذ فيه أمور منها ابتعادي عن البطالة، التي هي مدرجة الجهالة والضلالة".
حاضر اليوسي في كتابه المحاضرات بنسبه وباسمه وكنيته وما جرى له في ذلك من الاتفاقات الحسنة والمبشرة، وأورد مع ذلك فوائد التسمية والتكنية والتلقيب وما تعتد به العرب في ذلك من التكريم والتنويه أو من الضعة والتحقير.
وجاء فيها بمباحث أصولية وفقهية وصوفية فيها دقة نظر وسعة أفق واعتبارات بالأحوال وتعليلات متنزلة على أمور نفسية واجتماعية يكون بها اليوسي نظاراً أريباً ومفكراً حصيفاً. وأتى بنصوص أدبية شعراً ونثراً مما أنتجه أدباء العربية في مختلف العصور التي سبقت أزمانه.
وأورد الملح والمضحكات من غير أن يأتي من ذلك بما يخل بوقار العلماء ورصانة الأشياخ. وضمنها الأجوبة المسكتة، وأبيات المعاني، وطائفة من الملاحن والألغاز ومسرداً بالأوليات.
وعقد اليوسي باباً في المواعظ والحكم والوصايا افتتحه بشيء من كلام الرسول عليه السلام ثم قفاه ببعض من كلام الصديق والفاروق رضي الله عنهما، ثم قفى ذلك بزهاء الأربعمائة من حكم الإمام علي كرم الله وجهه ووصاياه، وأتى ذلك بأشعار بعضها لعدي بن زيد العبادي وبعضها لأبي العتاهية وبعضها للوراق ثم أورد نونية البستي فبائية صالح بن عبد القدوس بعدهما تائية المقرئ اليمنى.
ثم أنهى اليوسي محاضراته بمسرد سمى فيه من لقيهم من الأشياخ والعلماء من دون أن يقول عنهم شيئاً. وكان عدد الذين ذكرهم في المسرد نيفاً وخمسين، وبانتهاء ذلك المسرد تنتهي المحاضرات اليوسية

*****
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل من سماء رحمته غيثاً نافعاً، فأنبت به في قلوب عباده زهراً ناضراً وثمراً يانعاً.
زهر من العلم والعرفان مـؤتـلـق  في الطرس والنفس يستهدي بألـوان
وثمر يجـتـنـيه الأذكـياء بـتـش  مير ولا يجتنيه الـفـدم والـوانـي
للـه در كـرام فـاو فـائزهـــم  قدْماً بحلب درور منـه مـلْـبـان
وبابتنـاء مـبـان مـنـه سـامـية  لا يبتني مثلها في دهره الـبـانـي
هذا هو المجد في الدارين والشرف ال  محض الذي ما به في فضـل ثـان
"فاعكف عليه" مع الآناء مـعـتـنـياً  ولا يكن لك عن تـطـلابـه ثـان
واعلم بأنك لن تحظى بـصـهْـوتـه  حتى تجوز المدى في كـل مـيدان
ما لم تسنح علـيه كـلـمـا شـجـر  يرجى الجني منه أرضي وعَبْـدان
وتبذل النفس بعد المـال مـطـرحـاً  لكـل تـرفـيه أرواح وأبـــدان
وتغتـرب بـرهة فـي كـل آلـفة  من ذات قربى وأوطـان وإخـوان
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد ينبوع الأحكام والحكم، ومجموع شيم الفضائل وفضائل الشيم، وعلى آله ذوي المجد والكرم، وصحبه بحور العلوم ونجوم الظلم.
أما بعد، فإن الدهر أبو العجائب، وينبوع الغرائب، وفي المثل: الدهر حبلى لا يدري ما تلد، وقال الشاعر:
والليالي كما علمت حبالى  مقْرِبات يلدن كل عجيبه
وقال طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً  ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وإن للعاقل على مرور الجديدين علماً جديداً حيث انتهى فهمه كما له عيش حيث تهدي ساقه قدمه وكنت قلت في نحو ذلك:
أراني حـيثـمـا أخـطُ  أجد ما لـم أجـد قـطُّ
وإن الدهر حبلـى كُـلّ  ما حين لـه سـقـط
لقد سـايرتـه طـفـلاً  إلى أن مسنـي وخـط
فلـم ينـفـك يشـتــد  على المرء ويشـتـط
ولم يأل إذا استـعـلـى  يوم الهون أو يسـطـو
له فـي كـل إذن مـن  بنـي أبـنـائه قـرط
وفـي كـل قـذال وس  مة بالنـار أو شـرط
وقد يحنـو ويسـتـأنـي  وقد يحبو لمن يعطـو
سمـاء ديمة تـأتـــي  بزهر زهرها رُقـط
فحمـر ومـصـفـر  وموفـور ومُـنْـقَـطُّ
ومـجـدود ومـحـروم  ومستعمل ومـنـحـط
ومـنـقـاد ومـعـوج  وكز الخلق أو سـبـط
قضاء مـبـرم مـمـن  إليه الحـل والـربـط
إلـهٌ أمـره الأمـــر  ومنه الرفع والـحـط
ومنه اليسر والـعـسـر  ومنه القبض والبسـط
له فـي كـلِّ مــا يومٍ  شؤون منه تـخـتـط
وذو الفهـم لـه عـلـم  جديد حيثمـا يخـطـو
ففكر واعتبـر تـعـلـم  علوماً دونها الضـبـط
وتدرك غير ما في الصح  ف يوماً خلد الـخـط
وسلم وأرض بالمـقـدو  ر لا يذهب بك السخط
ولا تبرم إذا الـمـولـى  يشدّ الحبل أو يمـطـو
فما ترجو من الرضـوا  ن أنْ تَرْضَى له شرط
وإني قد اتفقت لي سفرة بان بها عني الأهل شغلاً وتأنيساً، وزايلني العلم تصنيفاً وتدريساً، فأخذت أرسم في هذا المجموع بعض ما حضرني في الوِطاب، مما أحال فيه أو حان له إرطاب وسميته "المحاضرات" ليوافق اسمه مسماه، ويتضح عند ذكره معماه وفي المثل": "خير العلم ما حوضر به" وإنما أذكر فيه فوائد وطرفاً، وقصائد ونتفاً، وذلك مما اتفق لي في أيام الدهر من ملح، أو لغيري مما ينتقى ويستملح، ولا أذكر نادرة فيها معنى شريف إلاّ شرحته، ولا لطيفاً إلا وشحته، وذلك هو لباب الكتاب، وفائدة الخطاب، والله الملهم للصواب.
وقد أذكر بعض ما صورته هزل يستهجن، وفيه سر يستحسن، وكما أن المقصود من الأشجار ثمارها، فالمطلوب من الأخبار أسرارها، وإنما حملني على الأخذ فيه أمور: منها التفادي من البطالة، التي هي مدرجة الجهالة والضلالة، ومنها إفادة جاهل أو تنبيه غافل، ومنها تخليد المحفوظ لئلا ينسى. وتفصيله نوعاً وجنسا، ومنها استمطار علم جديد، عند الاشتغال بالتقييد، فإن العلم كالماء نبَّاع، وبعضه تباع، وما هو في قلب ذكي الفؤاد، إلاّ كما قال امرؤ القيس عند وصف الجواد:
يجم على الساقين بـعـد كـلالـه  جموم عيون الحسي بعد المخيض
معنا تعليل النفس، ببعض الأنس، فإن النفس ترتاح للأحماض وتستشفي بروحه من الإمضاض ولا سيما مثلي ممن ترامت به الأقطار وتباعدت عنه الأوطان والأوطار وقلت في ذلك:
سلا هل سلا عن أهله قلب مـعْـنـيِّ  بريب الهوى والبين عن جيرة الحـيِّ
وهل ذلك الوجد الذي قد حشا الحـشـا  مقيم علـى أديانـه غـير مـكـفـيِّ
وهل قلبـه يوم الـنـوى مـتـقـلـب  تقلب مفؤود اللظـى سـاعة الـشـيِّ
وهل ينوي الأحباب مشفٍ على التـوى  وليس بوصل من حبيب بـمـشـفـيِّ
وهل أعشبت تلك الشعاب وأمـرعـت  فجاج مراعيها بـعـهـد ووسـمـيِّ
وهل أُقْحُـوانُ الـجـزع فـاح ونـده  بعرف تهاداه الشـمـائل مـسْـكـيِّ
وهل تالك الأزهار تـهـتـز نـضـرة  بكل جميل في الـخـمـيلة مَـوْلـيِّ
وكل مُجودٍ في النـجـود تـنـاوحـت  عليه الرياح من جنوبـي وشـرقـيِّ
إذا ما السحاب الغر عاطينهـا الـحـيا  تمايلن نشوى مـن مـدام شـبـامـيِّ
وإن صافحتها بعد وهـنٍ يد الـصـبـا  تنمت بأذكى مـن عـبـير وألـويّ ِ
فما شئت فيها من يواقيت تـجـتـلـي  ومن كوكب يعـشـي الـنـوال درّيّ
ومن بسط تزري ابتهاجـاً بـمـفـرش  أعدت بنو ساسان للبـسـط بَـوْشـيّ
وهل لسلـيمـى مـن ثـواء بـدارهـا  سقى الله تلك الـدار أطـيب مـا رِيِّ
وحيا مـحـياهـا الـوسـيم وإن لـوت  غريماً تقاضى وصلها طول مـا لـي
وحـيا زمـانـاً لـلـوصـل بـينـنـا  تباشير كالصبح المنـير عـلـى رَيِّ
زمـان ديار الـحـي دانٍ مـزارهـا  ونحن على عهد من الـودّ مـرعـيِّ
نعمنا بإيناس البـروق مـن الـحـمـى  أنيساً وإن لم نحظ مـنـه بـإنـسـيِّ
ونسمة أرواح الصـبـا وهـبـوبـهـا  علينا نموماً من صباهـا بـمـطـويِّ
وتنشـاق آ بـالأجـارع تـعـتـلـي  بنفحته للمسـتـهـامـين عـطـريِّ
وكنّا علـى أنّـا كـأنّـا بـوصـلـهـا  نغادي بكأس مطـمـئنـين خـمـري
ونرتع في روض المنـى ونـنـال مـا  نشاء ولا نرتاع مـن بـين مَـهْـوِيِّ
وعشنا زمانـاً لا نـعـانـي صـبـابة  ولا نتباكى من سـلـيمـى ولا مـيِّ
ولا نتشكّـى مـن صـدود ولا صـدى  ولا وجد مفؤود الجـوانـح مَـبْـريِّ
ليالي كان الشمل منضبـط الـكـلـى  وحبل التوالي مُحصَدٌ غـيرُ مَـفـريِّ
فلم تلـبـث الأقـدار أن مـددت بـنـا  عناناً إلى شط النوى غـير مَـثْـنـيِّ
فحالـت مـوّامٍ دونـهـا ذات مـنـزع  ودَيْنُ التداني قد غدا غير مـقـضـيِّ
وكان الذي خفنا يكـون مـن الـنـوى  وصرنا لأمر مُذْ أحـايين مَـخْـشـيِّ
على أن فضل الله ما انـفـك هـامـراً  علينـا ولـطـف دائم غـير مَـزْوِيّ
فلا تغترر بالدهـر يلـقـاك بـشـره  فإن وراء البشر طـعـن الـرُّدَيْنـيِّ
ولا تأمـنـن مـن هـولـه إن ريحـه  تهب إذا هبَّت عصـوفـاً بـلُـجِّـيِّ
ولا تغتبـط مـن حـظـه بـمـنـول  ولو تاج ملْكٍ فوق أشمـخ كـرسـيِّ
فما حالة منـه تـدوم عـلـى امـرئ  ولو خال جهلاً أنـه غـير مَـدْهـيِّ
ومـا هـو إلاّ مـثــل دولابَ زارع  فعُلويّه يعتاض حتـمـاً بـسُـفْـلـيّ
فكم أنْزلتْ نَسْرَ السـمـاء صـروفُـه  وحلّت ببنـت الـمـاء دارة عـلْـويّ
وكم ضعضعت ملكاً وأفنت ممـالـكـاً  وكم عاد عاني ريبها غـير مَـفـديّ
وكم زَيّلت بين المحـبـين فـاغـتـدى  دم الصب من فتك الهوى غير مـوّديّ
قضاء من المـولـى لـه كـل سـاعة  تَصرّفُ مختار وإنجـازُ مَـقـضـيّ
فأعْلقْ به أشطانَ قلـبـك واعـتـمـد  عليه تنل رشداً وتنـج مـن الـغـيّ
وقَـف أبـداً فـي بـابـه مـتـأدبـاً  منيباً بسعي عِنـد مـولاكِ مـرضـيّ
قنوعاً رَضُوَاً بالقـضـاء مـسـلـمـاً  بقلب على التوحيد والصدق محـنـي
فذاك الـذي يرقـى بـه لـمـنــازل  بها كل صديق حوى الفـضـل رِبّـيّ
وإن كنت لم تسعدك في ذلـك الـقُـوى  فزاحم بمسْطاع مع الـحـب والـزِّيِّ
فإن جـلـيس الـقـوم مـا إن ينـالـه  شقاء ومن عن حبهم غـير مـرمـيِّ
ومن قد حكاهم فهو مـتـهـم وكـل ذا  أتى في حديث عن ذوي الصدق مرويِّ
وكل امرئ يوماً سيجـزى بـمـا أتـى  من الخير بل يجزى على كل مَنْـويِّ
لله الأمر من قبل ومن بعد
فوائد تسمية المؤلف
قد جرت عادة من ألف بل من كتب رسالة أن يتسمى في كتابه ليعرف وفي معروفيته فوائد منها في كلامه أن يعرف مذهبه أو مطلبه أو يتمكن جوابه أو يشهد له وعليه.
ومن أهمها أن يعلم هل يوثق بنقله ويقتدي به في أصله، فإن كلام الحجة حجة، وإنما يعرف كونه حجة ومرتبته من العلم بشهادة أهل العلم، وذلك في ثلاثة أشياء: أحدها التصريح بذلك مشافهة أو في ترجمته ولذلك صنفت طبقات أهل العلم وأعتني بتراجمهم.
ثانيها عده مع العلماء عند ذكرهم في مذهب أو وفاق أو خلاف أو حكاية كلامه فيما يحكى من كلام العلماء أو مذهبه أو نحو ذلك وهو كالتصريح.
ثالثها الأخذ عنه أو إقراء تصانيفه أو شرحها أو تقليده أو نحو ذلك.
وإنما يحصل له ذلك من ثلاثة أشياء: أحدها سماع كلامه مشافهة.
ثانيها مطالعة تصانيفه والوقوف على تحريره وتحصيله أو سماع فتاويه وآرائه وكلامه بنقل الغير له كما مر وهلم جرّا.
وبعد حصول مطلق المرتبة من العلم تحصل خصوصيات المراتب بشهادة من هو أهل لذلك بها بمشافهة أو في ترجمة أو اقتداء الأكابر به، أو ترجيحه على غيره أو نحو ذلك.
ومنها في خارج أن تعرف مرتبته كما مرّ أو يتعرض لدعاء داع أو ثناء مثن بخير ومحبة وود وغير ذلك.
فرأيت أن أتسمى في هذا المجموع وأضيف إلى ذلك ما اتفق لي من كنية وما أدركت من نسب بعد أن تعلم أن الاسم العلم ثلاثة: اسم وكنية ولقب.
أما الاسم فهو من حيث هو ما أريد به من تعيين المسمى لا يعطى مدحاً ولا ذماً لصلاحية كل اسم لكل مسمى عند المحققين، ولكن إذا كان منقولاً فكثيراً ما يلاحظ فيه زيادة على تعيين المسمى مدلوله الأول الحقيقي أو المجازي فيشعر بمقتضاه إشعاراً.
ومن هذا وقع التفاؤل والتطير بالأسماء، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن ويقول: "إذَا أبْرَدْتُمْ إليَّ بَرِيداً فَأبْرِدُوهُ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الاسْمِ".
وكان صلى الله عليه وسلم يغير من الأسماء ما لا يرضى، فسأل عن اسم ماء فقيل له: بيسان وماؤه ملح فقال: بل هو نعمان وماؤه عذب، فكان كذلك، وجاءه رجل فقال ما اسمك؟ قال: غاوي بن عبد العزي، فقال صلى الله عليه وسلم: بل أنت راشد بن عبد ربه، وجاءه آخر فقال ما اسمك؟ فقال: حزن، فقال: بل أنت سهل، فقال الرجل: ما كنت لأغير اسماً سماني به أبي، وكان الإمام سعيد المسيب -رضي الله عنه- والرجل من أجداده يقول: فما زالت الحزونة فينا. فانظر كيف حكم مدلول اللفظ الأول. وقال صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية حين أقبل سهيل من ناحية قريش: "سَهُلَ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُم" ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "أسْلَمُ سَالَمَهَا اللهُ، وَغفَارٌ غَفَرَ اللهُ لَهَا، وعُصَيَّةُ عَصَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ" وقال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وقد سأل عن اسم رجل استعمله أو أراد أن يستعمله فقيل له: هو خبيئة كناز: هو يخبأ، وأبوه يكنز، لا حاجة لنا به. وبدل صلى الله عليه وسلم برة بنت أبي سلمة بدرة فراراً من التزكية التي يعطيها اللفظ، وقال مولانا علي كرم الله وجهه:
أنا الذي سمتني أمي حَيْدره
وقال الحريري في "المقامات" على لسان الغلام: "أما أمي فاسمها برة، وهي كاسمها برهة" وقالت اليهود يوم خيبر لمولانا علي رضي الله عنه، وقد تقدم بالراية فتسمى لهم: علوتم ورب الكعبة، وقالت العرب في أمثالها: إنما سميت هانئاً لتَهْنأ.
وقال الأخطل في كعب بن جعيل:
وسميت كعباً بشر العـظـام  وكان أبوك يسمى الجعـل
وإن مـكـانـك مـن وائل  مكان القرد من أست الجمل
قال: "هما هذان".
وكان بعض الرؤساء القيسية أحضر جفاناً من طعام، وكان بالحضرة بعض مَلاسينِ بكر بن وائل فأراد القيسي أن يعبث به فقال له: ما رأى بكر بن وائل قط مثل هذه الجفان؟ فقال ما رآها ولا رآها أيضاً قط عيلان يعني جده هو، ولو رآها ما قيل له عيلان بل شبعان.
وقالت هند بنت النعمان بن بشير تهجو زوجها الفيض بن أبي عقيل:
سميت فيضاً وما شيء تفيض به  إلاّ سُلاحك بين الباب والـدار
وقال الآخر:
وللحرب سمينا فكـنـا مـحـاربـاً  إذا ما الْقَنا أمسى من الطعن أحمرا
ومما ينخرط في هذا السلك أن بعض الملوك عزل وزيراً له اسمه الياقوت فحلف الملك ليستوزن أول من يلقى فخرج فلقي رجلاً أعرابياً فاستوزره فإذا هو من أعقل الناس وأنجبهم فلما رأى الوزير الأول ذلك كتب إلى الملك:
أحكم النسج كل من حاك لكن  نسج داود ليس كالعنكبوت
ألقني في لظى فإن غيرتني  فتيقن أن لست بالـياقـوت
يشير إلى أن الياقوت المعروف لا يفسد بالنار.
فأجاب الآخر:
نسج داود ما حمى صاحب الغا  ر وكان الفخار للعنكبـوت
وفراخ السَّمَنْد في لهب الـنـا  ر أزالت فضيلة الـياقـوت
أشار إلى السمندل وهو دويبة في ناحية الهند تتخذ من جلودها المناديل وتلقى في النار فلا تزداد إلاّ نضارة وحسناً ولا تحترق، والله على كل شيء قدير، إلى غير هذا مما لا ينحصر ولو تتبعناه لطال. وأما الكنية واللقب فيعتبران بوجهين: الأول نفس إطلاق الكنية واللقب وهما في هذا مختلفان، فإن الكنية الكثير فيها إذا لم تكن اسماً أن يراد بها التعظيم وينبغي أن يعلم أن الناس باعتبارها ثلاثة أصناف: صنف لا يكنى لحقارته، وهو معلوم من أن الحقارة أمر إضافي، فرب حقير يكون له من يراه بعين التعظيم فيكنيه، والمقصود أن التحقير من حيث هو حقير لا يكنى إلاّ هزءاً أو تلميحاً، وصنف لا ينبغي أن يكنى لاستغنائه عنها وترفعه عن مقتضاها، ومن ثم لا يكنى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم أرفع من ذلك حتى إنهم أشرفت رفعتهم على أسمائهم فشرفت، فإذا ذكروا بها كانت أرفع من الكنى في حق غيرهم، وللملوك وسائر أكابر الناس نصيب من هذا المعنى، وصنف متوسط بين هذين، وهو الذي يكنى تعظيماً، ثم إن كان التعظيم مطلوباً ككنية أهل العلم والدين ومن يحسن شرعاً تعظيمه فحسن، وكذا اكتناء المرء بنفسه إن كان تحدثاً بالنعمة أو تبركاً بالكنية باعتبار من صدرت عنه أو نحو ذلك من المقاصد الجميلة فحسن، وإلاّ فمن الشهوات النفسانية، فما كان تكبراً أو تعظيماً لمن لا يجوز تعظيمه بغير ضرورة ونحو ذلك فحرام، وإلاّ فمباح، وليس من هذا الباب ما يقصده به مجرد الإخبار فقط كقولك جاء أبي أو أبو فلان هذا أي والده، ولا يقصد به معناه على وجه التفاؤل مثلاً نحو أبي الخير وأم السعد.
وأما اللقب فيقصد به كل من المدح والذم وغير ذلك، والحكم كالذي قبله
.