للاستماع والتحميل: برنامج الشعر والغناء، الحلقة: الحادية عشرة هذه الحلقة حول الشعر المغني للشاعر اللبناني المهجري جبران خليل جبران. Dr. Mahmoud EL-Saied EL- Doghim, إعداد وتقديم: د.  محمود السيد الدغيم

3dflagsdotcom_leban_2fawm.gif

Launch in external player

رابط الاستماع والتحميل

اضغط  icon Jobran.ram (9.34 MB)   هنا

***

إذا لم تسمعوا الصوت فهذا يعني أن ليس لديكم برنامج ريل بلير، ومع ذلك يمكنكم الاستماع بتشغيل الملف التالي "فلاش" بالضغط على السهم الأبيض وسط المربع الأسود

***


برنامج الشعر والغناء
إعداد وتقديم د. محمود السيد الدغيم
هذه الحلقة حول الشعر المغني للشاعر اللبناني المجري جبراني خليل جبران، وهذه الحلقة هي الحلقة : 11 من سلسلة برامج الشعر والغناء، ومدة الحلقة: 45 دقيقة
وبثت هذه الحلقة من راديو سبيكتروم بلندن الساعة الثامنة مساء يوم السبت 24/10/ 1997م
وأعيد بثها أكثر من مرة، وقدمت من هذا البرنامج عدة حلقات من إذاعة ام بي سي اف ام، وبثت من البرنامج ثلاثون حلقة من راديو دوتشي فيلي الاذاعة العربية الألمانية، وبثت عدة حلقات من الإذاعة السودانية ، وبثت بعض الحلقات من الإذاعة التونسية، وقدمت لاتحاد الإذاعات العربية ثلاثون حلقة، وبلغ عدد حلقات هذا البرنامج الأسبوعي مئة وعشر حلقات
**
للتحميل والقراءة : قصة الأجنحة المتكسرة، تأليف الكاتب اللبناني جبران خليل جبران
اضغط هنا
***
جبران خليل جبران
(1883-1931م)
شاعر لبناني، ولد في "بشري بلبنان، وتعلم في "مدرسة الحكمة" ببيروت
هوي الأدب والرسم معاً، فاتجه الى باريس لدراسة الفن، وهناك اتصل بالمثَّال العالمي "رو دان".
هاجر صبياً مع بعض أقاربه الى الولايات المتحدة، ثم عاد اليها شاباً. وهناك مارس الرسم، وأنتج معظم شعره ونثره.. وحين الفت "الرابطة القلمية" من أدباء المهجر في نيويورك عام 1920م، انتخب عميداً لها. وكان عضاؤها من أشد دعاة التجديد تحمساً.
من أعماله الأدبية المجموعات القصصية: (الأرواح المتمردة) و (الأجنحة المتكسرة) وكثير من الشعر المنثور مثل: "عرائس المروج"، و "رمل وزبد". وقليل من النظم مثل "المواكب". كتب "النبي" بالإنجليزية وترجم إلى العربية، وقد ترجم إلى العديد من اللغات الحية وبيعت منه ملايين النسخ.
لم يكن جبران طالباً منضبطاً بل متمرداً على النظام ، لكنه كان فطناً ، حاضر النكتة يتلهى بوضع رسوم كاريكاتورية للمعلم بدل أن يصغي إلى شرحه . و في البيت ينصرف إلى التصوير. و كان التلوين هوايته المفضلة منذ عامه السابع .

كانت حياة جبران هادئة، يمرح بين المروج و التلال ، حتى بلغ عامه الخامس عشر ، إذ واجهته أزمة قوية هزت كيانه و لطّخت صفو أيامه بالسواد .أُوقف والده بتهمة الاختلاس و فُرضت عليه إقامة جبرية في مركز قريب من المحكمة و احتجزت أملاكه ، فضاقت الدنيا على الأسرة الجبرانية و سُدت منافذ الرزق . أضرت كاملة إلى مغادرة لبنان آخذة أبنائها معها طلباً للرزق و هرباً من الذل و الهوان . هكذا حطت العائلة الصغيرة رحالها في مدينة بوسطن في الولايات المتحدة الأمريكية ، و اتخذت من شقة صغيرة في حي الصينيين (أقدم أحياء المدينة و أضيقها ) سكناً لها .
بدأت لغته الإنجليزية تقوى بفضل مطالعته المستمرة ، لكنه كان يتحرق شوقاً لإكمال دراسته بلغته الأم،اللغة العربية،فلم يجد لذلك سبيلاً هناك ، ولم يكن بوسعه أن يؤمّن نفقات دراسته في لبنان.

أحست والدته بميله إلى العودة إلى لبنان ليواصل دراسته باللغة العربية و راحت توفر له ما استطاعت هي و استطاع بطرس و سلطانة و ماريا اللتان كانتا تعملان بالخياطة رغم حداثة سنّهما،لكي تتحقق رغبة الابن النابغة.
و عاد جبران إلى بيروت في أوائل خريف عام 1898 ،فزار والده أولاً في بشرّي فلقاه معدماً ، و عجوزاً قبل أوانه، فحز في نفسه ما انتهى إليه والده من بؤس و مرارة و وحشة.

في مطلع العام الدراسي سجل جبران اسمه في معهد (الحكمة)في بيروت،فكان نصيبه الصف الابتدائي ،فعز عليه و قد أتقن الإنجليزية و فن التصوير ، فقصد الخوري يوسف الحداد (أستاذ البيان في ذلك المعهد) و شكى إليه أمره.فقال له الخوري ((ألا تعلم أن السُلم يُرقى درجة درجة ))،فرد عليه جبران بشموخ: ((بلى،و لكن هل يجهل الأستاذ أن الطائر لا ينتظر السُلم في طيرانه)).فاقشعر بدن الخوري و شعر أنه أمام عقلية بارزة في فتى له حكمة الشيوخ. وقال فيه فيما بعد أنه لم يكن عند إلقاء الأمثولة يفتح كتابه بل كان أُذناً و عيناً، و كان يأتي للخوري بمقالات من تأليفه فلمس فيها الخوري جسماً متناسق الأعضاء عليه مسحة من الجمال تحت ثوب من اللفظ لا يشاكل المعنى.
أهم ما طالع جبران و أحب و هو يدرس في معهد (الحكمة) كليلة و دمنة ،نهج البلاغة،ديوان المتنبي،والكتاب المقدس (أي الإنجيل).

لم يكن الزمن لطيفاً مع جبران ، فقسى عليه و حال دونه و دون إكمال دراسته باللغة العربية حتى النهاية في بيروت ، تلقى خبر وفاة أخته سلطانه،فخرج من معهده ليواجه العالم بأحزان تنهش صدره و تمزقه ،و لم يقف زمان الحزن عند وفاة سلطانة ، بل بدأت تتوالى الصدمات تباعاً……

واجه جبران خليل جبران (1883- 1931) عصره فتعارفا وكان صراع سافر شاعراً فى أبعاد العصر ليبلور الحكمة الكامنة عله يدفع بالإنسان نحو ذاته الفضلى من "بشرى" لبنان (1883- 1895) حيث ولد وحيث تفتح وجدانه وخياله إنتقل إلى "بوسطن" (1895- 1898) التى كانت تشهد –آنذاك-نهضة فكرية وعاد إلى "بيروت" (1898– 1902) ليعيش نكبات شرقه وتخلفه بينما كان يستزيد من تعلم العربية فى بلاده ثم إلى"بوسطن" ثانية (1902-1908) ليعيش تجربة الموت الذى حصد أسرته (1902-1904) ثم إلى "باريس" (1908-1910) ليسبر عمق التحول الثقافى والفنى الذى كانت تشهده وبعدها "نيويورك"(1911-1931) حيث يدرك معنى المدينة الحديثة فى أوسع مفاهيمها.

ويمكن تبين ثلاثة مراحل فى إنتاج جبران:

الرومانسية:
كما تنعكس فى كتيب "نبذة فى الموسيقى" (1906)، وأقصوصات "عرائس المروج"(1906)، و"الأرواح المتمردة" (1908)، و"الأجنحة المنكسرة" (1912)، ومقالات "دمعة وإبتسامة" (1914)، والمطولة الشعرية "المواكب" (1919).

الثورية الرافضة:
تتصعد الرومانسية لتنتهى إلى إكتشاف أن القوة الإنسانية تكمن فى الروح الخاص والعام، كما فى مقالات وأقصوصات وقصائد "العواصف" (1920)،"والبدائع والطرائف" (1923)، وفى كتابه بالإنكليزية "الهة الأرض" (1931).

الحكمية:

تعتمد المثل أسلوبا، كما فى ثلاثيته إنكليزية اللغة: "المجنون" (1918) "السابق" (1920)، و"التائه" (1932).
****
ولعلّ ثورة جبران بدأت بثورة صامتة يكسو جوانبها الكآبة والحزن فلقد اصطدم في مطلع شبابه بواقع
اجتماعي مرير جعلت الخيبة تغمر جوانب نفسه ،
وظهر ذلك جليا فس مقالاته في عرائس المروج والبدائع والطرائف ،
نبرة حزينة تزعمت موقف جبران في ثورته تلك
اضافة الى استسلام نفسه ومن ضمن تلك الثورة الى الألم والعذاب ،
مشاركة منه في ذلك لكل الضعفاء وهم يشقون وللمظلومين وهم يظلمون !!
بلغت ثورته مداها في كتابه " العواصف " فزادت نقمته على
.الأوضاع وصار يدعو الى تهديم الفساد وهياكله ،

" فما نجت مؤسسة من معول الهدم لديه "

غير ان تلك الثورة لم تلبث ان تفجرّت
طاقة هائلة من العنف والتمرد وتقديس القوة والتهكم بالخانعين ...
حتى كاد جبران ان يقطع ما بين ماضيه وحاضره فيقول :

" ان هذا الشاب الذي كتب ( دمعة وابتسامة ) قد مات ودفن في وادي الأحلام ".

جبران ثار على رجال الدين وسيطرتهم كما ثار على تجار الطائفية الذين برأيه " سّلحوا
الدرزي لمقاتلة العربي ، وشجّعوا الأحمدي لمنازعة المسيحي ، فحتى متى يصرع الأخ أخاه على صدر الأم ؟
والام يتباعد الصليب عن الهلال أمام عين الله ؟"
ثار على العدالة البشرية التي تقابل الشر بالشر
كما ثار على الاقطاعية التي تجمع بين رجل الدين ورجل السياسة لاستغلال الفقير المسكين ..
وثار على التقاليد التي تجعل الأحياء عبيدا للأموات ..ثار على الزواج اذا كان يشكل عبودية منظمة بالشرائع وعلى الأغنياء الذين لا يقوّمون الأشياء الا بالمال ....

كل هذه الثورات جاءت بشكل أقاصيص أخذ عليها النقاد ضعف الحبكة وأنها تنطق الاشخاص بغير كلامهم كما في مرتا البانية وأن جبران هو البطل الأول في تلك الأقاصيص بحيث تتعدّد أسماء الأبطال ، ولكنها تصب جميعا في
شخصية واحدة : هي شخصية جبران .

سأورد الأن مقطعا من مقالته يا بني أمي :

ماذا تريدون مني يا بني أمي؟
أتريدون أن أبني لكم من المواعيد الفارغة قصورا مزخرفة بالكلام ، وهياكل مسقوفة بالأحلام ؟
أم تريدون أن أهدم ما بناه الكاذبون زالجبناء ،
وأنقض ما رفعه المراؤون والخبثاء ؟
أأهدل كالحمائم لأرضيكم ،
أم أزمجر كالأسد لأرضي نفسي؟
نفوسكم تتلوى جوعا وخبز المعرفة أوفر من مجار الأوية ،
ولكنكم لا تأكلون ،
وقلوبكم تختلج عطشا ومناهل الحياة
تجري كالسواقي حول منازلكم فلماذا لا تشربون ؟
للبحر مد وجزر وللقمر نقص وكمال وللزمن صيفا وشتاء .
أما الحق فلا يجول ولا يزول ولا يتغير فلماذا تحاولون تشويه وجه الحق؟
باديتكم في سكينة الليل لأريكم جمال النور وهيبة الكواكب ،
فهببتم من مضاجعكم مذعورين ،
وقبضتم على سيفكم وعلى أرواحكم صارخين :
أين العدو لنصرعه ؟
عند الصباح وقد جاء العدو بخيله ورجاله ،
ناديتكم فلم تهبوا من رقادكم بل ظللتم تغالبون مواكب الأحلام .
قلت لكم تعالوا نصعد الى قمة الجبل لأريكم ممالك العالم
فأجبتم قائلين :
في أعماق هذا الوادي عاش آباؤنا وجدودنا
وفي ظلاله ماتوا وفي كهوفه قبروا فكيف نتركه ونذهب الى حيث لم يذهبوا ؟
لقد كنت أحبكم يا بني أمي وقد أضرّ بي الحب ولم ينفعكم ،
واليوم صرت أكرهكم والكره سيل لا يجرف غير القضبان اليابسة
ولا يهدم سوى المنازل المتداعية .
كنت أشفق على ضعفكم يا بني
أمي والشفقة تكثر الضعفاء ، وتنّمي عدد المتوانين ولا تجدي الحياة شيئا ،
واليوم صرت أرى ضعفكم فترتعش نفسي اشمئزازا وتنتفض ازدراءا .
ماذا تريدون مني يا بني أمي ؟
أرواحكم تنتفض في مقابض الكهان والمشعوذين ،
وأجسادكم ترتجف بين أنياب الطغاة والسفاحين ،
وبلادكم ترتعش تحت أقدام الأعداء والفاتحين ،
فماذا ترجون من وقوفكم أمام وهج الشمس؟؟
أنا أكرهكم يا بني أمي لأنكم تكرهون المجد والعظمة ،
أنا أحتقركم لأنكم تحتقرون نفوسكم .
أنا عدوكم لأنكم أعداء الآلهة ولكنكم لا تعلمون.

كما نلاحظ جيعا ثورته على الناس جميعا في هذا النص
يراهم جبران ، قانعون ، ذليلون قابلون بالواقع ..
كم هم بحاجة للثورة ولا يثورون ..
عندما يجب عليهم التمرد والتحرك ..تراهم لا ثورة
فهم يثورون كلاميا فقط أما في العمل فهم غائبون ..
ثار على عاداتهم وتقاليدهم البالية التي نسخوها كما هي عن اجدادهم ..
رآهم ضعفاء وجبناء
لدرجة احس بأنه يكرههم :
أنا أكرهكم يا بني أمي لأنكم تكرهون المجد والعظمة ،
أنا أحتقركم لأنكم تحتقرون نفوسكم .
أنا عدوكم لأنكم أعداء الآلهة
لكنم لا تعلمون
سأعود وأتابع التوغل في أروقة شرايين جبران وأتمنى أن ترافقوننا اما بملاحظاتكم واما بتزويدنا بمعلوماتكم وخصوصا كل من يهوى
المغامرة في محاريب وادي قاديشا .... وادي جبران المقدس !!
لا تبتعدوا أيها السمار ،
فالعمل الجماعي المشترك دليل نضج وعافية
وله نكهة طيبة و مميزة
****
( اذا جلست على السحابة لما رايت الحدّ الفاصل بين بلاد وبلاد
ولا الحجر الفاصل بين حقل وحقل .
ولكن يا للأسف ..انك لا تستطيع ان تجلس على السحابة !)
جبران في رمل وزبد
***
ان نبي جبران جمع الأرض من اقصاها الى ادناها في نغمة واحدة
تخفق باتجاه واحد ،
اتفقوا على قبوله كخلاصة وعي وفلسفة
اخلاقية جميلة
وهو كتاب النبي

واصبح جبران استاذا لكثير من الناشئة والشباب ،
اعجبهم فتخرجوا من مدرسته الأدبية والتي قامت على ما يلي :

اولا : جعل الأدب ذا رسالة اجتماعية تهتم بموضوعات حياتية كما تهتم بمعتقدات البشر ومصير الانسان .

ثانيا : توثيق الصلة بينه وبن سائر الفنون الجميلة بحيث لا ينفصل عنه فقد كان جبران رساما ونحاتا وموسيقيا شاعرا وكاتبا مبدعا فاجتمعت تلك الصفات في ادبه ، ولأول مرة في تاريخ الكتابة العربية تظهر هذه الصفات واضحة حميمة بين مختلف الفنون .

ثالثا : الاعتماد على الخيال في مختلف أنواعه والتفنن في التصوير وابتداع الرؤى والرموز .

رابعا : الاكثار من وصف الطبيعة والحنين اليها على الطريقة الرومنطيقية

خامسا : تلوين الأدب بالوان حديثة وخاصة في كتاب النبي والتاثر بروحانيات الشرق.

سادسا : الاتجاه بالنثر نحو الشعر وحشد كل المقومات الشعرية من عاطفة وخيال مجنح ....
سابعا : تلقيح الأدب بلقاحات ثقافية غربية .
ثامنا : الاتجاه بالأدب نحو الانسانية عامة وانتشاله الى ما وراء التخوم العادية ليعبر عن الطروح الانسانية في كل زمان ومكان .
تاسعا : التاثر بالأدب الرومنطيقي لا من حيث الغناء في الطبيعة فحسب بل من حيث النفور ايضا من الحضارة الزائفة والمجتمع الفاسد ومن السويداء التي تغشى القلب ،والعيش في اجواء عاطفية تكتنف الأديب في كل مكان اضافة الى الهروب من التيارات المادية الى التفكير الروحاني .

عاشرا : الثورة على كل عتيق وبال وتبديد ظلمات التقاليد الفكرية والاجتماعية والعمل على التجديد والتحرر من القيود والأغلال الظالمة !!
**
ومن نص المحبة قال جبران :
.. المحبة تضمكم الى قلبها كأغمار الحنطة .
وتدرسكم على بيادرها لكي تظهر عريكم .
وتغربلكم لكي تحرركم من قشوركم
وتطحنكم لكي تجعلكم انقياء كالثلج .
وتعجنكم بدموعها حتى تلينوا ،
ثم تعدّكم لنارها المقدسة ، لكي تصيروا خبزا مقدسا ، يقرب على مائدة الرب المقدسة !!

كل هذا تصنعه المحبة لكم لكي تدركوا اسرار قلوبكم .
فتصبحوا بهذا الادراك جزءا من قلب الحياة .......

المحبة لا تعطي الا نفسها ، ولا تأخذ الا من نفسها .
المحبة لا تملك شيئا ولا تريد ان يملكها احد :
لأن المحبة مكتفية بالمحبة .
**
 شك أن في الملح قوة مقدسة عجيبة . فهو كائن في دموعنا وفي البحر .
وان الهنا في عطشنا المبارك سيشربنا جميعنا : قطرة الندى والدمعة معا )
من كتاب رمل وزبد

الغريب أن ثورة جبران كانت قد بلغت ذروتها في " العواصف " والذي يدهشني أنها لانت وهدأت بشكل ملفت ،
مما يدعونا للتفكير والاستغراب اذ أن هذا التبدّل العميق قد يعني أن
الناس قد سلكوا طريقا أعجب جبران نفسه ؟ ولكن ما هذا الذي حصل بالفعل ؟؟
فما الذي برأيكم جعل صاحب كتاب النبي يستسلم الى السكينة ؟؟؟

صحيح أن جبران كان وديعا وهادئا يغشى أدبه ميل الى الصوفية !!
ولكن أفكار نيتشة حوّلته الى بركان ثائر جرّت جبران الى كتابة رائعته " النبي "
راح يطالب بمجتمع فاضل قرأ الفلسفة البوذية ، تأمل بالتعاليم المسيحية وتعاليم المتصوفة ، تعمق بدين الاسلام وصار ينظر الى الوجود نظرة حكيم هاديء !!

دعا الى مجتمع مثالي تختفي فيها الانانية وما يعلق بصاحبها من أدران
وكان ارتكازه في ذلك المجتمع على ثلاث دعائم رئيسية :

المحبة " التي تجعل الانسان في قلب الله "
العطاء ، " الذي هو بسمة الله على على الأرض وتجسيد المحبة الكاملة "
والعمل " والذي هو بنظر جبران مظهر من مظاهر العبادة ، يقرّبنا الى حقيقة ذواتنا والى حقيقة السعادة "

سأورد مقطعا صغيرا عن العمل على ان اورده كاملا في مساحة النثر ان شاء الله

قال حراث : حدثنا عن العمل : فأجاب قائلا :
انما تعملون لكي يتسنى لكم أن ترافقوا الارض في سيرها ، وروح الأرض .
فمن يكسل يصبح غريبا عن الفصول ، ويخرج من موكب الحياة الذي ينطلق نحو اللانهاية بجلال ، وخضوع ملؤه الاباء .
حينما تعملون تكونون قيثارة يتحوّل في قلبها همس الساعات الى موسيقى .

**
ليس اللؤلؤ سوى رأي البحر في الصدف
وليس الماس سوى راي الزمن في الفحم

جبران خليل جبران في رمل وزبد
**
جبران في آثاره العربية

يطوي العبقري في خلال عمر واحد أعمار أجيال سبقته،
وأجيال رافقته ، واجيال تاتي بعده ، فيموت ليحيا ويحيا غيره ليموت .

ويحيا العبقري في قلوب الأجيال لأنه يعطي آلامها الخرساء ألسنة من نثر ،
ويدمّ أمالها المقعدة بأجنحة من نور .

فللّحم والدم في كل زمان ومكان ، مغاور سحيقة ،
تتزاوج في ظلماتها الملذّات فتنسل أوجاعا .
وللروح أجواء فسيحة برودها الفكر والخيال فيضرمان الشوق الى الانعتاق من الوجع .
والعبقريّ من استطاع أن يسبر الأغوار ويجوب الأعالي وان يعود من تلك وهذه بصورة الانسان الأمثل وهدفه الأسنى ن ألا
وهو الحياة التي لا تاخذها سنة الموت ، ولا تكبّلها قيود
اللحم والدم ، ولا تحصرها حدود الزمان والمكان
..
وجبران كان ذلك العبقري ..

ودائما مع ميخائيل نعيمة والذ يتقن بشفافية اختيار حرفه
وهو يحكي عن رفيق الغربة والرابطة القلمية ، والحنين والثورة
والحياة المستقبلية ن والأمل باللغة العربية والحرف العربي والمحافظة عليه ونشره
في بلاك الفرنج بقوة كان البحث عن " الذهب في بلاد الالدورادو " هو المنافس !!

في آخر كتاب " دمعة وابتسامة " مقال عنوانه
"صوت الشاعر " يتكلّم فيه جبران بلسانا لشاعر فيقول في جملة ما يقول :

" جئت لأقول كلمة ، وسأقولها ،
واذا أرجعني الموت قبل أن ألفظها
يقولها الغد .فالغد لا يترك سرا مكنونا
في كتاب اللانهاية "

وهو يختم المقال بالعبارة التالية :

" والذي أقوله الآن بلسان واحد
يقوله الآتي بألسنة عديدة "
**
من أقوال جبران

" ما عييت الا أمام من سألني : من أنت ؟ "
" أعطني الصمت أقتحم غمرات الليل "
" التذكار شكل من أشكال اللقاء "
" النسيان شكل من أشكال الحرية "
" ليس الفضاء فضاء بين الأرض والشمس لمن ينظر اليه من نوافذ المجرة "
" الإنسانية نهر من النور يسير من أودية الأزل الى بحر الأبد "
" ما أغربني عندما أشكو ألماً فيه لذتي ! "
" قال لي منزلي : لا تهجرني لأن ماضيك يقطن فيّ "
" بين خيال الانسان وإدراكه مسافة لا يجتازها سوى حنينه "
السفينة جيدة والربان ماهر ، ولكن التشويش في معدتك أنت
فلو كنت مكانك لما أنحيت باللائمة على البحر في وقت الجزر .
من كتاب رمل وزبد
**
ميخائيل نعيمة في تحليله
عن تاريخ جبران الأدبي وهي تقع في حوالي خمس وعشرون صفحة
ساح جبران سياحات بعيدة في دنيا التأمّل
والتبحّر والخيال ، وتحدّث عن سياحاته
بريشته البليغة وقلمه الحسّاس فرسم الكثي والّف الكثير .
ولكنه ارتحل عن هذه الفانية وفي ريشته خطوط
وألوان ل تنسجم في رسوم ، وبين شقّي قلمه أنغام لم تنتظم في مقاطع .
وأغلب الظن لو سئل قبيل أن بلغت روحه التراقي :

" هل قلت كلمتك يا جبران ؟" لأجاب :
" لفظت منها منقاطع . أما الكلمة فما قلتها بعد "

ذلك لأنه يريدها كلمة شاملة كالحقيقة الأزليّة التي كان
ينشدها بقلبه ، شاسعة كالمدى اللامتناهي الذي كان يحسه
بروحه ،رائعة كالجمال الساحر الذي كان يلمحه بخياله.....

....لئن فات جبران كما فات غيره من الشعراء والمفكرين والمصلحين ،
أن يقول الكلمة" الكاملة " فلم يفته أن يقول الكلمة
التي وعتها الحياة على لسانه وبين شفتيه وفسحت له من العمر
المدى الكافي لقولها وقد قالها

عالية
صافية
جريئة
بعيدة القرار .

وهذه "الكلمة "ان تسالني أين تجدها في مؤلفات جبران ( ودائما الكلام لنعيمة )
أجبك :

بأنك لن تجدها في هذا الكتاب أو ذلك ، ولا في هذه
المقطوعة أو هاتيك ،بل عليك اذا شئت أن تعرفها ،
بمطالعة كلّ ما كتبه جبران من "الموسيقى " حتى " التائه ".
فحياته وأعماله مثل حياة وأعمال اي انسان وأعماله
وحدة لا تتجزأ .
....

روعة جبران أوضحها بأناقة الأديب زميل غربته
وأنيس وجعه ميخائيل نعيمة الذي اضاف أيضا :
الارث الذي تركه لنا جبران هو ارث غني .
فجدير بنا أن نستمتع به كاملا ، لا بهذا البعض
منه دون ذلك .
***
جبران خليل جبران

المواكب

الخيرفي الناس مصنوعٌ اذا جُبروا

و الشرُّ في الناس لا يفنى و إِن قبروا

و أكثر الناس آلاتٌ تحركها

أصابع الدهر يوماً ثم تنكسرُ

فلا تقولنَّ هذا عالم علمٌ

و لا تقولنَّ ذاك السيد الوَقُرُ

فأفضل الناس قطعانٌ يسير بها

صوت الرعاة و من لم يمشِ يندثر

* * *

ليس في الغابات راعٍ لا و لافيها القطيعْ

فالشتا يمشي و لكن لا يُجاريهِ الربيعْ

خُلقَ الناس عبيداً للذي يأْبى الخضوعْ

فإذا ما هبَّ يوماً سائراً سار الجميعْ

* * *

أعطني النايَ و غنِّ فالغنا يرعى العقولْ

و أنينُ الناي أبقى من مجيدٍ و ذليلْ

* * *

و ما الحياةُ سوى نومٍ تراوده

احلامُ من بمرادِ النفس يأتمرُ

و السرُّ في النفس حزن النفس يسترهُ

فإِن تولىَّ فبالأفراحِ يستترُ

و السرُّ في العيشِ رغدُ العيشِ يحجبهُ

فإِن أُزيل توَّلى حجبهُ الكدرُ

فإن ترفعتَ عن رغدٍ و عن كدرِ

جاورتَ ظلَّ الذي حارت بهِ الفكرُ

* * *

ليس في الغابات حزنٌ لا و لا فيها الهمومْ

فإذا هبّ نسيمٌ لم تجىءْ معه السمومْ

ليس حزن النفس الاَّ ظلُّ وهمٍ لا يدومْ

و غيوم النفس تبدو من ثناياها النجومْ

* * *

أعطني الناي و غنِّ فالغنا يمحو المحنْ

و أنين الناي يبقى بعد أن يفنى الزمنْ

* * *

و قلَّ في الأرض مَن يرضى الحياة كما

تأتيهِ عفواً و لم يحكم بهِ الضجرْ

لذلك قد حوَّلوا نهر الحياة الى

أكواب وهمٍ اذا طافوا بها خدروا

فالناس ان شربوا سُرَّوا كأنهمُ

رهنُ الهوى و عَلىَ التخدير قد فُطروا

فذا يُعربدُ ان صلَّى و ذاك اذا

اثرى و ذلك بالاحلام يختمرُ

فالأرض خمارةٌ و الدهر صاحبها

و ليس يرضى بها غير الألى سكروا

فإن رأَيت اخا صحوٍ فقلْ عجباً

هل استظلَّ بغيم ممطر قمرُ

* * *

ليس في الغابات سكرٌ من مدامِ او خيالْ

فالسواقي ليس فيها غير اكسير الغمامْ

انما التخدير ُ ثديٌ و حليبٌ للانامْ

فاذا شاخوا و ماتوا بلغوا سن الفطامْ

* * *

اعطني النايَ و غنِّ فالغنا خير الشرابْ

و أنين الناي يبقى بعد أن تفنى الهضاب

* * *

و الدين في الناسِ حقلٌ ليس يزرعهُ

غيرُ الأولى لهمُ في زرعهِ وطرُ

من آملٍ بنعيمِ الخلدِ مبتشرٍ

و من جهول يخافُ النارَ تستعرُ

فالقومُ لولا عقاب البعثِ ما عبدوا

رباًّ و لولا الثوابُ المرتجى كفروا

كأنما الدينُ ضربٌ من متاجرهمْ

إِن واظبوا ربحوا او اهملوا خسروا

* * *

ليس في الغابات دينٌ لا و لا الكفر القبيحْ

فاذا البلبل غنى لم يقلْ هذا الصحيحْ

إنَّ دين الناس يأْتي مثل ظلٍّ و يروحْ

لم يقم في الأرض دينٌ بعد طه و المسيح

* * *

اعطني الناي و غنِّ فالغنا خيرُ الصلاة

و أنينُ الناي يبقى بعد ان تفنى الحياةْ

* * *

و العدلُ في الأرضِ يُبكي الجنَّ لو سمعوا

بهِ و يستضحكُ الاموات لو نظروا

فالسجنُ و الموتُ للجانين إن صغروا

و المجدُ و الفخرُ و الإثراءُ إن كبروا

فسارقُ الزهر مذمومٌ و محتقرٌ

و سارق الحقل يُدعى الباسلُ الخطر

و قاتلُ الجسمِ مقتولٌ بفعلتهِ

و قاتلُ الروحِ لا تدري بهِ البشرُ

* * *

ليس في الغابات عدلٌ لا و لا فيها العقابْ

فاذا الصفصاف ألقى ظله فوق الترابْ

لا يقول السروُ هذي بدعةٌ ضد الكتابْ

انَّ عدلَ الناسِ ثلجُ إنْ رأتهُ الشمس ذابْ

* * *

اعطني الناي و غنِ فالغنا عدلُ القلوبْ

و أنين الناي يبقى بعد أن تفنى الذنوبْ

* * *

و الحقُّ للعزمِ و الارواح ان قويتْ

سادتْ و إن ضعفتْ حلت بها الغيرُ

ففي العرينة ريحٌ ليس يقربهُ

بنو الثعالبِ غابَ الأسدُ أم حضروا

و في الزرازير جُبن و هي طائرة

و في البزاةِ شموخٌ و هي تحتضر

و العزامُ في الروحِ حقٌ ليس ينكره

عزمُ السواعد شاءَ الناسُ ام نكروا

فإن رأيتَ ضعيفاً سائداً فعلى

قوم اذا ما رأَوا اشاههم نفروا

* * *

ليس في الغابات عزمٌ لا و لا فيها الضعيفْ

فاذا ما الأُسدُ صاحت لم تقلْ هذا المخيفْ

انَّ عزم الناس ظلٌّ في فضا الفكر يطوفْ

و حقوق الناس تبلى مثل اوراق الخريفْ

* * *

اعطني الناي و غنِّ فالغنا عزمُ النفوسْ

و أنينُ الناي يبقى بعد أن تفنى الشموسْ

* * *

و العلمُ في الناسِ سبلٌ بأنَ أوَّلها

امَّا اواخرها فالدهرُ و القدرُ

و أفضلُ العلم حلمٌ ان ظفرت بهِ

و سرتَ ما بين ابناء الكرى سخروا

فان رأيتَ اخا الاحلام منفرداً

عن قومهِ و هو منبوذٌ و محتقرُ

فهو النبيُّ و بُرد الغد يحجبهُ

عن أُمةٍ برداءِ الأمس تأتزرُ

و هو الغريبُ عن الدنيا و ساكنها

و هو المهاجرُ لامَ الناس او عذروا

و هو الشديد و إن ابدى ملاينةً

و هو البعيدُ تدانى الناس ام هجروا

* * *

ليس في الغابات علمٌ لا و لا فيها الجهولْ

فاذا الأغصانُ مالتْ لم تقلْ هذا الجليلْ

انّ علمَ الناس طرَّا كضبابٍ في الحقولْ

فاذا الشمس اطلتْ من ورا آلافاقِ يزولْ

* * *

اعطني النايَ و غنِّ فالغنا خير العلومْ

و أنينُ الناي يبقى بعد أن تطفى النجومْ

* * *

و الحرُّ في الأرض يبني من منازعهِ

سجناً لهُ و هو لا يدري فيؤتسرْ

فان تحرَّر من ابناءِ بجدتهِ

يظلُّ عبداً لمن يهوى و يفتكرُ

فهو الاريب و لكن في تصلبهِ

حتى و للحقِّ بُطلٌ بل هو البطرُ

و هو الطليقُ و لكن في تسرُّعهِ

حتى الى اوجِ مجدٍ خالدٍ صِغرُ

* * *

ليس في الغابات حرٌّ لا و لا العبد الدميمْ

انما الأمجادُ سخفٌ و فقاقيعٌ تعومْ

فاذا ما اللوز القى زهره فوق الهشيمْ

لم يقلْ هذا حقيرٌ و انا المولى الكريمْ

* * *

اعطني الناي و غني فالغنا مجدٌ اثيلْ

و أنين الناي ابقى من زنيمٍ و جليلْ

* * *

و اللطفُ في الناسِ اصداف و إن نعمتْ

أضلاعها لم تكن في جوفها الدررُ

فمن خبيثٍ له نفسان واحدةٌ

من العجين و أُخرى دونها الحجرُ

و من خفيفٍ و من مستأنث خنثِ

تكادُ تُدمي ثنايا ثوبهِ الإبرُ

و اللطفُ للنذلِ درعٌ يستجيرُ بهِ

ان راعهُ وجلٌ او هالهُ الخطرُ

فان لقيتَ قوياًّ ليناً فبهِ

لأَعينٍ فقدتْ ابصارها البصرُ

* * *

ليس في الغابِ لطيفٌ لينهُ لين الجبانْ

فغصونُ البان تعلو في جوار السنديانْ

و اذا الطاووسُ أُعطي حلةً كالارجوانْ

فهوَ لا يدري أحسنْ فيهِ ام فيهِ افتتان

* * *

اعطني الناي و غنِّ فالغنا لطفُ الوديعْ

و أنين الناي ابقى من ضعيفٍ و ضليعْ

* * *

و الظرفُ في الناس تمويهٌ و أبغضهُ

ظرفُ الأولى في فنون آلاقتدا مهروا

من مُعجبٍ بأمورٍ و هو يجهلها

و ليس فيها له نفعٌ و لا ضررُ

و من عتيٍّ يرى في نفسهِ ملكاً

في صوتها نغمٌ في لفظها سُوَرُ

و من شموخٍ غدت مرآتهُ فلكاً

و ظلهُ قمراً يزهو و يزدهرُ

* * *

ليس في الغابات ظريف ظرفهُ ضعف الضئيلْ

فالصبا و هي عليل ما بها سقمُ العليلْ

انّ بالانهار طعماً مثل طعم السلسبيلْ

و بها هولٌ و عزمٌ يجرفُ الصلدَ الثقيلْ

* * *

اعطني الناي و غنِّ فالغنا ظرفُ الظريفْ

و أنين الناي ابقى من رقيق و كثيفْ

* * *
و الحبُّ في الناس أشكالٌ و أكثرها

كالعشب في الحقل لا زهرٌ و لا ثمرُ

و أكثرُ الحبِّ مثلُ الراح ايسرهُ

يُرضي و أكثرهُ للمدمنِ الخطرُ

و الحبُّ ان قادتِ الاجسامُ موكبهُ

الى فراش من الاغراض ينتحرُ

كأنهُ ملكٌ في الاسر معتقلٌ

يأبى الحياة و أعوان له غدروا

* * *

ليس في الغب خليعٌ يدَّعي نُبلَ الغرامْ

فاذا الثيران خارتْ لم تقلْ هذا الهيامْ

انَّ حبَّ الناس داءٌ بين حلمٍ و عظامْ

فاذا ولَّى شبابٌ يختفي ذاك السقامْ

* * *

اعطني النايَ و غنِّ فالغنا حبٌّ صحيحْ

و أنينُ الناي ابقى من جميل و مليحْ

* * *

فان لقيتَ محباً هائماً كلفاً

في جوعهِ شبعٌ في وِردهِ الصدرُ

و الناسُ قالوا هوَ المجنونُ ماذا عسى

يبغي من الحبِّ او يرجو فيصطبرُ

أَفي هوى تلك يستدمي محاجرهُ

و ليس في تلك ما يحلو و يعتبرُ

فقلْ همُ البهمُ ماتوا قبل ما وُلدوا

أنَّى دروا كنهَ من يحيي و ما اختبروا

* * *

ليس في الغابات عذلٌ لا و لا فيها الرقيبْ

فاذا الغزلانُ جُنّتْ اذ ترى وجه المغيبْ

لا يقولُ النسرُ واهاً ان ذا شيءٌ عجيبْ

إنما العاقل يدعى عندنا الأمر الغريبْ

* * *

اعطني الناي و غنِّ فالغنا خيرُ الجنون

و أنين الناي ابقى من حصيفٍ و رصينْ

* * *

و قل نسينا فخارَ الفاتحينَ و ما

ننسى المجانين حتى يغمر الغمرُ

قد كان في قلب ذى القرنين مجزرةٌ

و في حشاشةِ قيسِ هيكلٌ وقرُ

ففي انتصارات هذا غلبةٌ خفيتْ

و في انكساراتِ هذا الفوزُ و الظفرُ

و الحبُّ في الروح لا في الجسم نعرفهُ

كالخمر للوحي لا للسكر ينعصرُ

* * *

ليس في الغابات ذكرٌ غير ذكر العاشقينْ

فالأولى سادوا و مادوا و طغوا بالعالمين

اصبحوا مثل حروفٍ في أسامي المجرمينْ

فالهوى الفضّاح يدعى عندنا الفتح المبينْ

* * *

اعطني الناي و غنّ و انس ظلم الأقوياء

انما الزنبق كأسٌ للندى لا للدماء

* * *

و ما السعادة في الدنيا سوى شبحٍ

يُرجى فإن صارَ جسماً ملهُ البشرُ

كالنهر يركض نحو السهل مكتدحاً

حتى اذا جاءَهُ يبطي و يعتكرُ

لم يسعد الناسُ الا في تشوُّقهمْ

الى المنيع فان صاروا بهِ فتروا

فإن لقيتَ سعيداً و هو منصرفٌ

عن المنيع فقل في خُلقهِ العبرُ

* * *

ليس في الغاب رجاءٌ لا و لا فيه المللْ

كيف يرجو الغاب جزءا و عَلىَ الكل حصلْ

و بما السعيُ بغابٍ أَملاً و هو الأملْ

انما العيش رجاءً إِحدى هاتيك العللْ

* * *

اعطني النايَ و غنِّ فالغنا نارٌ و نورْ

و أنين الناي شوقٌ لا يدانيهِ الفتور

* * *

و غايةُ الروح طيَّ الروح قد خفيتْ

فلا المظاهرُ تبديها و لا الصوَرُ

فذا يقول هي الأرواح إن بلغتْ

حدَّ الكمال تلاشت و انقضى الخبرُ

كأنما هي أثمار إذا نضجتْ

و مرَّتِ الريح يوماً عافها الشجرُ

و ذا يقول هي الأجسام ان هجعت

لم يبقَ في الروح تهويمٌ و لا سمرُ

كأنما هي ظلٌّ في الغدير اذا

تعكر الماءُ ولّت ومَّحى الاثرُ

ضلَّ الجميع فلا الذرَّاتُ في جسدٍ

تُثوى و لا هي في الارواح تختضرُ

فما طوتْ شمألٌ اذيال عاقلةٍ

الاّ و مرَّ بها الشرقيْ فتنتشرُ

* * *

لم اجدْ في الغاب فرقاً بين نفس و جسدْ

فالهوا ماءٌ تهادى و الندى ماءٌ ركدْ

و الشذا زهرٌ تمادى و الثرى زهرٌ جمدْ

و ظلالُ الحورِ حورٌ ظنَّ ليلاً فرقدْ

* * *

اعطني النايَ و غنِّ فالغنا جسمٌ وروح

و أنينُ الناي ابقى من غبوق و صبوحْ

* * *

و الجسمُ للروح رحمٌ تستكنُّ بهِ

حتى البلوغِ فتستعلى و ينغمرُ

فهي الجنينُ و نا يوم الحمام سوى

عهدِ المخاض فلا سقطٌ و لا عسرُ

لكن في الناس اشباحاً يلازمها

عقمُ القسيِّ التي ما شدَّها وترُ

فهي الدخيلةُ و الأرواح ما وُلدت

من القفيل و لم يحبل بها المدرُ

و كم عَلَى الارض من نبتٍ بلا أَرجٍ

و كم علا الافقَ غيمٌ ما به مطرُ

* * *

ليس في الغاب عقيمٌ لا و لا فيها الدخيلْ

إنَّ في التمر نواةً حفظت سر النخيلْ

و بقرص الشهد رمزٌ عن فقير و حقولْ

انما العاقرُ لفظ صيغ من معنى الخمولْ

* * *

اعطني الناي و غنِّ فالغنا جسمٌ يسيلْ

و أنينُ الناي ابقى من مسوخ و نغولْ

* * *

و الموتُ في الأرض لابن الارض خاتمةٌ

و للأثيريّ فهو البدءُ و الظفرُ

فمن يعانق في احلامهِ سحراً

يبقى و من نامَ كل الليل يندثرُ

و من يلازمُ ترباً حالَ يقظتهِ

يعانقُ التربَ حتى تخمد الزهرُ

فالموتُ كالبحر , مَنْ خفّت عناصره

يجتازه , و أخو الاثقال ينحدرُ

* * *

ليس في الغابات موتٌ لا و لا فيها القبور

فاذا نيسان ولىَّ لم يمتْ معهُ السرورْ

إنَّ هولِ الموت وهمٌ ينثني طيَّ الصدورْ

فالذي عاش ربيعاً كالذي عاش الدهورْ

* * *

اعطني الناي و غنِّ فالغنا سرُّ الخلود

و أنين الناي يبقى بعد ان يفنى الوجود

* * *
اعطني الناي و غنِّ وانس ما قلتُ و قلتا
انما النطقُ هباءٌ فأفدني ما فعلتا
هل تخذتَ الغاب مثلي منزلاً دون القصورْ
فتتبعتَ السواقي و تسلقتَ الصخورْ
هل تحممتَ بعطرٍ و تنشقت بنورْ
و شربت الفجر خمراً في كؤُوس من اثيرْ
هل جلست العصر مثلي بين جفنات العنبْ
و العناقيد تدلتْ كثريات الذهبْ
فهي للصادي عيونٌ و لمن جاع الطعامْ
و هي شهدٌ و هي عطرٌ و لمن شاءَ المدامْ
هل فرشتَ العشب ليلاً و تلحفتَ الفضا
زاهداً في ما سيأْتي ناسياً ما قد مضى
و سكوت الليل بحرٌ موجهُ في مسمعكْ
و بصدر الليل قلبٌ خافقٌ في مضجعكْ
اعطني الناي و غنِّ و انسَ داًْ و دواء
انما الناس سطورٌ كتبت لكن بماء
ليت شعري اي نفعٍ في اجتماع و زحامْ
و جدالٍ و ضجيجٍ و احتجاجٍ و خصامْ
كلها انفاق خُلدٍ و خيوط العنكبوتْ
فالذي يحيا بعجزٍ فهو في بطءٍ يموتْ
* * *
العيشُ في الغاب و الأيام لو نُظمت
في قبضتي لغدت في الغاب تنتثر
لكن هو الدهرُ في نفسي له أَربٌ
فكلما رمتُ غاباً قامَ يعتذرُ
و للتقادير سبلٌ لا تغيرها
و الناس في عجزهم عن قصدهم قصروا
**
استهوت المقامات العربية
جبران خليل جبران.. عرفها وعرفنا ببعضها
بأن ترجم لحنها ، احساسا على الورق
فجاءت كما يلي :
( النهاوند )
يمثل تفريق المحبين ووداع الوطن ويصف آخر نظرة من راحل عزيز .
يمثّل شكوى آلام مبرحة بين ضلوع قوامها لظى الشوق
النهاوند صوت من أعماق النفس الحزينة .
نغم متجسّم من مهجور يسال عطفا على رمقه قبل أن يضنيه البعاد .
زفرات يائس أنشاتها المرارة وتنهدات قانط بثتها لوعة من أتلفه الصب والتجلد.
النهاوند يمثّل الخريف وتساقط أوراق الأشجار المصفرّة بسكينة وهدوء ، وتلاعب الريح بها
وتفريق شملها .
النهاوند صلاة والدة ناى ابنها الى ارض بعيدة فباتت بعده تغالب النوى فيهاجمها
بعوامل اليأس وتصدّه بفواعل الصبر والأمل .
وفي النهاوند معنى بل معان وأسرار يفهمها القلب وتفقهها النفس .
اسرار يحاول بثّها السان وكشفها القلم فيجف ّ هذا وتنقطع أوصال ذاك .
( الاصفهان )
......... الأصفهان آخر نفس من منازع واقف ، في مركب الموت ،
بين شاطيء الحياة وبحر الأبدية .
الأصفهان رثاء للذات بغصّات متقطعة متواصلة وتنهّدات عميقة .
نغمة صداها سكينة تمازجها مرارة الموت والأسى وحلاوة الدمع والوفاء .
وان كان النهاوند حنين من يحيا ببعض الأمل ،
فالأصفهان أنين من انفصمت عرى آماله .
( الصبا )

الصبا نغمة فرح تنسي المرء أتراحه ...
الصبا كنسيمات الصبا تمرّ فتهتزّ لها أزاهر الحقل تيها وابتهاجا ..

(الرصد)
وللرّصد في سكينة الليل ،
وقع المشاعر يحاكي تأثير كلمات رسالة جاءت من عزيز غال ،
انقطعت أخباره في بلاد بعيدة ، فجاء الكتاب يحيي عاطفة الأمل وعد النفس باللقاء .
وكأنّي بمغنّي الرصد يخبر بقرب الفجر واندحار الظلام ،
وقد قيل :" ان جهز ليلك فارصد "
وفي العتابا البعلبكية عتاب رقيق يراوح بين اللوم والتعنيف ،
ولحنها مزيج من النهاوند والصبا المفرح وفعلها في النفس فعلهما
**
من أعماق هذه الأعماق ، نناديك ايتها الحرية فاسمعينا
ومن جوانب هذا الظلمة نرفع أكفنا نحوك فانظرينا ،
أمام عرشك الرهيب نقف الآن ناشرين على أجسادنا أثواب
آبائنا الملطخة بدمائهم ،
عافرين شعورنا بتراب القبور الممزوج ببقاياهم ،
حاملين السيوف التي أغمدت في أكبادهم ،
رافعين الرماح التي خرقت صدورهم ،
ساحبين القيود التي أبادت أقدامهم ،
صارخين الصراخ الذي جرح حناجرهم ،
نائحين النواح الذي ملأ ظلمة سجونهم ،
مصلّين الصلاة التي انبثقت من أوجاع قلوبهم ،
فاصغي أيتها الحرية واسمعينا !!

جبران خليل جبران
من خليل الكافر
الأرواح المتمردة
**
الأيدي التي تصنع أكاليل الشوك هي
أفضل من الأيدي الكسولة
من كتاب رمل وزبد

يقول نعيمة :لقد صدق جبران اذ قال :

" والذي اقوله الآن بلسان واحد يقوله الاتي
بالسنة عديدة ".
فها هم قرّاؤه اليوم أضعاف اضعاف قرائه
يوم أن كتب ذلك المقال منذ خمسة وثلاثين من الأعوام
( نعيمة كتب ما كتب هنا سنة
1949 )
وهم في ازدياد مطّرد عاما بعد عام
وهم تحت كل كوكب ومن شتّى الأجناس واللّغات .
فمن حقه علينا ، بل من حق أنفسنا علينا ،
ان نصون الارث الذي خلّفه لنا من عبث العابثين
ومن جشع المستثمرين .

ثمانية وأربعون عاما أولها بشري - لبنان -
وآخرها في نيو يورك من الولايات المتحدة اللأميركية
تلك هي الفسحة التي أتاحتها الأقدار لجبران ليقول فيها كلمته .

وجبران الذي كان يؤمن أوثق الايمان بالتقمّص ماكان يحسب
ولادته في شمالي لبنان مصادفة عمياء .
بل كان يعتقدها نتيجة لازمة لحياة سابقة .
ففي تلك البقعة الغنيّة بمفاتنها الطبيعية وذكرياتها الدينية ثروة من الجمال
الذي لم يكن بدّ لعين جبران من أن تكتحل به ولروحه من أن تستحم في بهائه .
وقد اعترف جبران من تلك الثروة في صباه قبل أن يهجر لبنان الى بوسطن
سنة 1894.
ثم في شبابه يوم عاد ليدرس في مدرسة الحكمة البروتية
بين 1896 و 1901،
واغترف ما يكفيه مؤونة العمر .
ثم راح ينثر بقلمه وبريشته ما اغترفه من ذلك الجمال ،
وينثر بلباقة الفنان المبين لفنّه وسخاء الشاعر المثقل بالشعور .
فأنت تشم طيوب لبنان وتستشعر سحر أعاليه وأغواره ،
وتحس جماله وجلاله في
كل ما تقرأه لمؤلف " النبي ".
**
التعاسة في أن أمد يدي فارغة للناس فلا يضع فيها أحد شيئا ،
أما القنوط ففي أن أمدّها ملآنة فلا يأخذ الناس منها شيئا
من رمل وزبد
*******************
 ميخائيل نعيمة :
من بواكير قلم جبران مقال في الموسيقى أصدره عام
1905 في نيويورك في شكل كتيّب فكان الحلقة الأولى في سلسلة
مؤلفاته التي اختتمها بكتابه الانكليزي "التائه " المنشور بعد وفاته .

وأنت اذ تطالع "الموسيقى " يستوقفك فيها أوّل ما يستوقفك
نمط في الكتابة يتميّز بسهولة التعبير ، وحلاوة التلوين ،
ولطافة الواقع ، وصدق النيّة ، وسلامة الذوق ، وعمق الاحساس ،
والنزعة الى الابداع في الوصف والتشبيه .
فهو يتنكّب المألوف من الجناس والمجاز،
ويحاول تحميل الكلمات من المعاني فوق ما تعوّدت حمله
على ألسنة الشعراء والكتّاب ،
مثلما يحاول تجريدها من التفاهة والفضول .
فيقول لك مثلا :في الموسيقى أنها جزء من الحشاشة له روح من النفس،
وعقل من القلب .
أو يقول :" الألحان في فضائي أشباح للذات الحقيقية أو أخيلة الشعائر
الحية ".فيشبّه الألحان بالأشباح ، ويجعل للذات اشباحا ،
ويفصل بين الذات الحقيقية والذات الموهومة ، وبين المشاعر الحيّة
والمشاعر الميتة ، ثم يجعل للمشاعر أخيلة .

ومن بعدأن يمرّ مرّا سريعا بشتى الحالات التي ترافقها
الموسيقى ،
ويأتي على مكانتها عند مختلف الشعوب ، ويصف تأثير النهوند
والصبا والرصد من الألحان العربية ومعناها .
تلقي الكتيّب من يدك فتشعر أن هذا الفتى الذي يكلمك
غنيّ القلب ، عزيز النفس ، يكره التقليد ويحاول شقّ
طريق جديد .ولكنّ عدته كانت لم تكتمل في ذلك الوقت بعد ..
**
أمّا اسم المرأة التي احبّها قلبي فهو الحياة .
فالحياة امرأة ساحرة حسناء تستهوي قلوبنا ، وتستغوي أرواحنا ،
وتغمر وجداننا بالوعود ، فأن ماطلت أماتت فينا الصبر ، وان برّت أيقظت فينا الملل .
الحياة امرأة تستحم بدموع عشاقها وتتعطّر بدماء قتلاها .
الحياة امرأة ترتدي الايام البيضاء المبطّنة بالليالي السوداء .
الحياة امرأت ترضى بالقلب البشري خليلا وتأباه حليلا .
الحياة امرأة عاهرة ولكنّها جميلة ومن ير عهرها يكره جمالها.

من كتاب العواصف - قبل الانتحار
*********

ومن نفس كلمة التقديم لمجموعة جبران العربية ،
نتابع مع الأديب ميخائيل نعيمة

ويمضي عام وبعض العام على العالم العربي بكتيّب أكبر حجما وابعد مدى من " الموسيقى"
وقد أسماه " عرائس المروج " وضمّنه قصصا ثلاثة :

** رماد الأجيال والنار الخالدة
**مرتا البانيّة
** يوحنا المجنون

غاية جبران الذي يؤمن بعقيدة التناسخ والتي اتصلت اليه اما عن طريق المطالعة
واما من أفواه بعض معارفه . وهذه العقيدة هي أقدم من أن تحد لها أي بداية .
ولكنّها ، كما عنّ لجبران تصويرها في قصة رماد الأجيال ، أتاحت لقلمه فرصة نادرة
يفلت فيها من قيود العرف والتقليد ويمضي يتغنى بالحبّ
وسحره وجبروته وجماله ، ثم يتغلغل فيما ندعوه روحا وبين ما ندعوه مادة ،
ويروي عطشه
الى الأنغام العذبة ، والألوان الرقراقة ، والتشابيه المبتكرة .

كانت تسيطر على جبران طبيعتان عندما انبرى جبران للقصة :
طبيعة الفنان المرهف الحس والشعور ،
وطبيعة المرشد والمصلح والواعظ .

فالأوّل لا ينفك ينسج المه من نفسه نظير ما تنسج دودة القز
فيلجتها من خيوط في احشائها .
فاذا راح يعالج عالما غير عالمه
أعوزته المقدرة على حبك الحوادث وتصوير الأشخاص والحالات
حبكا يتناسبان مع الواقع
المحسوس حتى وان كانت الغاية التي يهدف اليها فوق الحس
وابعد من الواقع .

والثاني دأبه التفتيش عن مواطن الضعف والوجع في الناس ،
حتى اذا وقع عليها انطلق يندد ويبكت ويؤنب ، وقد ينتهي بأن
يصف ما يعتقده الدواء الأوحد والأنجع .

وجبران في " قصصه " يخلق حالاات وأشخاصا تنقصهم
أبدا دقّة الحبكة ، والتصوير الواقعي ، ولا غرض له من خلقهم الا أن يجعل منهم
مطايا لقلمه ليفتنّ ما شاء له الفن في وصف الطبيعة وشتى المشاعر البشرية .
وعلى الأخص تلك التي يغلب فيها التوجّع والتفجّع والتأسّي
والا ليلقي المواعظ الجميلة في قساوة الناس وقذاراتهم وخنوعهم وفي جمال الحب
والحق والحرية وما اليها .
**
"ان أدران الجسد لا تلامس النفس النقيّة ، والثلوج المتراكمة لاتميت البذور الحيّة .
وما هذه الحياة سوى بيدر أحزان ـدرس عليه أغمار النفوس قبل أن
تعطي غلّتها ."
مرتا البانيّة - عرائس المروج

كان من الطبيعي لجبران المفطور على الصدق والرفق واللين ،
المؤمن بكرامة الانسان ورفعة عنصره ، أن يصطدم في بدء تفتحه الفنّي والروحي
اصطداما عنيفا مؤلما بخشونة الواقع ورياء الحياة البشرية المكبّلة بالتقاليد والشرائع .
وكان من الطبيعي لذلك الفتى الطامح للانطلاق ،
الشاعر بوفرة المواهب المتغلّفة في كيانه ،
أن يجرّد كلّ ما لديه من سلاح وعتاد فيخوض المعركة
واثقا من أنه سيصرع التنيّن في النهاية .
فما كان يعرف أن ذلك التنّين لن يصرع حتى تصرع الأجساد والأرواح
التي تغذيه بلحومها وأحلامها - أي حتى
تصرع البشرية المذعورة من الجوع ومن نار جهنم .

فلبنان في ذلك الزمان - مثله في هذا الزمان - كانت تسوده اقطاعيتان :
سياسية ودينية .

فلا عجب اذا اتخذ جبران من تينك الاقطاعيتين أهم ّ المواضيع للقصص
التي صنّفها قبل أن اكتملت عدّته الفنيّة والفكريّة.
ومواضيع تكاد تنحصر في اثنين :

- جور التقاليد البشريّة في ما حللّته وحرّمته من العلاقات بين المرأة والرجل .
- جور الحكّام المدنييّن والدينييّن في علاقتهم مع الجماهير التي ندعوها الشعب .

لعلّ أحب الناس الى قلب جبران هو ابن الفطرة وابن الطبيعة لا سلاح لديه و ليس في
يده الا المعول . ولعلّ ابغض الناس اليه هم الذين
يتظلّمون أبناء الفطرة والطبيعة ، فيهضمون حقوقهم
ويمتهنون كرامة الانسان فيهم ويقدّمون اليهم
السم ّ في الدسم .

وفي عام 1908 صدر لجبران في نيويورك كتا " الأرواح المتمردة "
وقد نشرته كما نشرت سالفه ( عرائس المرج ) جريدة المهاجر
لصاحبها أمين الغريّب وفي صدره التقدمة التالية :

" الى الروح التي عانقت روحي . الى القلب الذي سكب
أسراره في قلبي . الى اليد التي أوقدت شعلة عواطفي أرفع هذا الكتاب "

وبين عرائس المروج وبين الأرواح المتمردة فسحة جدّ قصيرة من حيث الزمان .
وان تشابهت المواضيع والمرامي ، ولكن بينهما بونا شاسعا من
حيث المعالجة والأداء .
فالديباجة أكثر اشراقا تتلمّع
في ثناياها جواهر من التشابيه والاستعارات المبتكرة ،
واللغة أمتن سبكا وأرحب صدرا ، والحجّة اقوى حبكا وأبعد أثرا ،
والفكر أصفى ينبوعا وأسرع جريا ، والجرس ألطف وقعا وأشجى لحنا.
لقد كان جبران الشاعر
وجبران الرسّام وجبران المفكّر في سباق مع الزمن .

****


 


thumb qr1 
 
thumb qr2
 

إحصاءات

عدد الزيارات
16406894
مواقع التواصل الاجتماعية
FacebookTwitterLinkedinRSS Feed

صور متنوعة